د.عمار إبراهيم الياسري
شهدت الأشكال السردية بمختلف تنوعاتها تحولات بنيوية كبيرة ، وهذه التحولات مردها التجريب الذي يسعى له صانعو الخطاب من أجل المغايرة والتفرد ، وقد شهدت القصة القصيرة جداً ذات التحولات البنيوية على مستوى الشكل ، إذ اعتمدت على القصر المكثف والإيجاز المشهدي والاختزال الزمني والانزياح عن المعيار والمرموزات المباشرة وغير المباشرة والاقتصاد في تشكيلية الجملة وغيرها، ولم تخلُ القصة القصيرة جداً عن تقانات سردية تتعالق مع وعي المتلقي ، فقد تمثلت فيها طروحات تنظيرية لمنظري مدرسة التلقي والتأويل سواء كانت حداثية أم ما بعد حداثية ، إذ يرى (فولفانغ أيزر) إن عملية التلقي تشتغل على ملء الفراغات التي تمثل ما يخفيه النص ، بمعنى إن السارد يترك فجوات سردية تعد مكملة لما هو موجود يقع على القارئ مهمة ملء هذه الفراغات على وفق حمولاته المعرفية كي تكتمل بنية النص ، وعملية ملء أو ردم الفراغات أو الفجوات تتطلب استحضار منظومة من العلاقات يتشاكل فيها الظاهر والمخبوء ، وترتبط آلية ملء الفراغات لدى (أيزر) بمفهومين آخرين هما وجهة النظر الجوالة التي تكشف عن طريقة حضور المتلقي في النص والمركب السلبي الذي يشكل القارئ من خلاله الصور ، وهذه المفاهيم تتطلب ساردية متعالية تشتغل على إنتاج بنية نصوصية جديدة.
ولو تابعنا مجموعة (مدية الحكايا) للقاص حمودي الكناني التي تضمنت أربعة وسبعين قصة قصيرة جداً ، نلحظ إن القاص عمل على ترك فراغات سردية متنوعة وسط بنية التكثيف المشهدي والاختزال الزمني والاقتصاد التركيبي للجملة ، ففي نصه (زورق) نجد فراغاً سردياً مهيمناً حينما يقول “يريدونني أقضي العمرَ أبحثُ عن لقمة عيشي في مقبرة (….!؟)” ، إن هذا الفراغ الظاهر يشي بمعان عديدة ، فالجملة ابتدأت بفعل مضارع أختزل القاص فيه وصفية السرد من اجل الدخول في فعل الشخصية ، وهذه ميزة من ميزات القصة القصيرة جداً التي تعتمد التكثيف المشهدي ، في حين اختزلت ياء المتكلم أبعاد الشخصية ، ففي البعد الاجتماعي نتخيل رجلاً يعمل في مقبرة وفي البعد النفسي يعاني من فراغ وجودي قاحل ، ولكن التساؤل الذي تركه القاص في فراغه، ما المقبرة؟ أهي الدنيا التي تعد مقبرة الأحياء من الفقراء أم هي مقبرة الموتى التي يعمل فيها البطل ؟ ، وهي مهنة وضيعة لا يعمل فيها إلا من لم يجد له عملا وسط الأحياء وهنا تقع على المتلقي مهمة ملء الفراغ ، ثم يعمد القاص إلى تغييب بطله إلى حيث لا عودة معانقاً الفناء ، وهي نهاية تختزل الكثير من الأزمنة التي تجسد قسوة ما مر به من الآم جسام من جهة وتبين لنا الاقتصاد الواضح في تركيبية الجملة من جهة أخرى ، في حين تشظت وجهة النظر السردية على قسمين ، الأول كان البطل فيه هو السارد المشارك في الأحداث كما في المطلع المذكور والثاني كان القاص هو العارف بكل شيء من خارج الأحداث كما في الجملة الثانية التي اختزلت النهاية ، بينما تنوعت الصور المتخيلة من المقبرة الواقعية إلى المقبرة الافتراضية التي تتساوق مع حياة البطل الموحشة ، ومما تقدم ندرك تحقق الاشتراطات الجمالية لكتابة القصة القصيرة جداً لدى القاص بما فيها تقانة الفراغات السردية .
أما في نصه (رفرفةُ روح) نلحظ تحولات بنيوية مغايرة عن نصه السابق ، فقد ابتدأ القاص بفعل ماضٍ كما نقرأ ” عاد بعد سنين يسأل عن مسقط رأسه” ، إن استخدام الفعل الماضي تساوق مع وجهة نظر الروائي العارف بكل شيء من خارج الحدث على العكس من النص السابق ثم يتحول السرد إلى الحاضر حينما وظف الفعل (يسأل) ثم نلحظ أن البطل العائد إلى مسقط رأسه يبحث عمن يقطنه وحينما لم يجده أغتمَّ ليترك القاص فراغاً سردياً يقع تحت تساؤلات عدة ، هل غياب الأحبة هو السبب أم أن الجباه الممسوخة التي تركت المكان يتصحر هي السبب ، ولم يترك القاص نهايته تسير بصورة تراتبية بل عمد إلى كسر أفق التوقع لدى القارئ الغارق في ماهية الفعل أغتمَّ حينما جعل من البطل ينحت في الفراغ بيتاً وهي قراءة تتعالق مع الطروحات الباشلارية التي ترى أن مكان الصيرورة الأولى يعد دافعاً لا مرئياً في الصياغات المكانية حتى التخيلية منها.