يوسف عبود جويعد
النقطة التي سقطت فوق حرف (الحاء) ليتحول إلى (خاء)، فيتغير اسم الأم من (حوشية) إلى (خوشية)، هو الباب الساحر، الذي سوف يفتح على مصراعيه، ليفضي بنا إلى الفضاء الواسع للنص السردي الروائي (عرگشينة السيّد) للروائي سلمان كيوش، لنكون مع سلمان بطل هذا النص، والذي هو في تفاصيل حياته وسلوكه وطبيعته، الروائي ذاته، لينسلخ ويستنسخ شخصية رئيسة ومركزية في متن هذا النص، ويقوم بمهمة إدارة دفة الأحداث، وبما أن الروائي سلمان كيوش وفي تجارب سابقة، استطاع وبنجاح أن يكوّن رؤياه الفنية في نقل معالم الحياة لأهل الجنوب (العمارة)، بشكل صادق وأمين وبتلقائية وفطرة واضحة، حيث سرعان ما نتأثر بأسلوبه في الهيمنة على حواسنا حد الانغلاق والتعاطف مع تلك الأجواء، حيث الماء، والطين الحر، والطيور التي تسكن الأرياف، طير الماء، والحذاف، والخضيري، وغيرها، والبساتين والأهوار، والصرائف، والدواوين، والسياح والسمك، والشاي ذي المذاق المميز لأهل الجنوب، وحسن الضيافة، فإننا وعندما يكتشف سلمان بأن عليه أن يذهب الى العمارة من أجل حذف هذه النقطة كي يقبل في الدراسات العليا، وفي دائرة الأحوال الشخصية، ترفض الموظفة أي إجراء دون أن يمر اولاً على الدائرة القانونية في الطابق الثاني، وكان السيّد هادي الناجي، يقف بقربه، وقد أحس بثقل مهمته، وانه يريد إنهاء الأمر بأسرع ما يمكن، وهو يهم متجهاً نحو الطابق الثاني، وبعد أن سمع أحدهم يناديه:
(ما إن اقبلتُ عليه حتى ابتسم ومدّ يده. صافحني وقبّلني بحميمية بدت غريبة:
– آنه هاني الناجي.. أنت اليوم خطّاري.. لا تروح للشؤون القانونية. تره يسووها عليك جرجرة. تعال وياي ومالك غرض.) ص 22
وهكذا نجد دخولنا الى فضاء النص، ليس مفتعلاً، أو مقصودًا، أو مقحمًا، وإنما عملية السرد تسير بتأن واضح، وصدق وقد غلبت عليه الواقعية الاجتماعية، وازدادت التفاصيل الوصفية التي تمنحنا ذهنًا رائقًا من أجل أن نكون مع ريف الجنوب ومدينة العمارة بأدق التفاصيل التي لا تخلو من المتعة والتشويق، فعند دخول بيت سيّد هاني المتواضع، واكتشاف سلمان أنهم لا يملكون سوى ديك وحيد وهو يعرف كرم وحسن ضيافة أهل الجنوب، ومحاولة منه لإنقاذ الديك من الذبح:
( قلتُ له كي أمنع كارثة ذبح الديك:
– سيّد آنه ميّت من الجوع.. أرجوك أريد الموجود…
ضحك وقال:
– وتگل لأهل بغداد سيّد هاني غدّاني بيض… بس هو الموجود؟!) ص 27
ومع هذا فإن الديك لم ينجُ من الذبح، وبعد أن نغرق حد الامتلاء الممتع بتلك التفاصيل، التي عمد الروائي بنقلها بتلقائيتها وصدقها ونقائها وصفائها، التي تمهد لانتقالات جديدة، ومفاجآت جاءت ضمن النسق الفني لهذا النص، دون أي تكلّف أو مبالغة، نكون مع حكاية السيّد هاني الناجي، وقصة الحب الغريبة التي عاشها مع الفتاة التي التقاها ذات صباح على الجسر، فأشعلت حواسه، وألهبت فؤاده، وسلبت لبه، حتى أنه صار ينتظرها كل يوم ولا يعود من الجسر إلا بعد أن تذهب إلى معهد المعلمين وتعود منه، فنشأت بينهما علاقة حب من نوع خاص لا تشبه تلك العلاقات العابرة، بل إنها دخلت في أعماق الروح في تفاصيل استطاع الروائي نقلها بغرائبيتها:
(وجدتني كأني في منازلة مع من لا طاقة بي ولا حيلة لمواجهته. هذا ما شعرت به حينها. هل جّربت منازلة جمال يورث الحسرات وأنت لا تملك مما يمكن أن يقربك منه غير قلب أعزل؟ آه يا سلمان من وجه يقطر عافية ونعمة، ومن عينين تأسرانك مع ما بك من يقين أو شك في أنهما ستغفوان وهما تلتهمان عيني رجل غيرك. وآه من شعر كسول سيتبعثر على وجه غيرك وزنده. ) ص 68
ونكون مع المفاجأة التي لم نكن نتوقعها، فقد تعرض السيّد لضرب مبرح وصل حد الاغماء، من قبل اخوة حبيبته وابناء عمومتها، ليسحبوها وهم يصرخون في وجهها (بربوگ)، وتختفي عن الحضور ويبقى السيّد أسير الجسر حتى نعت بـ (مسودن الجسر). أن سيّد هاني الناجي، وجد في سلمان الصدر الرحب الذي يمكن أن يضخ فيه قصة حبه ولواعجه، وحتى عندما يعود سلمان الى بيته في بغداد، يأتي السيّد الى بيته مع ابنته خديجة المصابة بمرض خبيث، ومهددة بالموت وزوجته العلوية، ليكمل له الحكاية، وبعد أن يوفر سلمان الأجواء للاستماع إلى ما تبقى من حكاية السيّد، تحدث المفاجأة الثانية، وهي مفاجأة مؤثرة جداً ومحرجة جداً، إذ أن زوجة سلمان تصرخ بوجه زوجها ليسمعها السيّد معترضة على حكاية السيد:
(- ابدّال ما يشوف بته المريضة بالسرطان. ابدّال ما يوگف وي زوجته المسكينة ظال السيّد يتعشگ.. تبرّه منه جدّه محمّد…) ص 85
إن استخدام الروائي اللهجة الجنوبية، في الحوار، وكذلك استخدام تلك اللهجة في الوصف، عمل ذلك على نضوج هذا النص، وجعله قطعة سردية صادقة لنقل البيئة الريفية في الجنوب، ويساهم في إنضاج النص، ليكون مختلفًا وهو ما أراده الروائي سلمان كيوش الذي تميز بهذه السرديات.
وهكذا فأن السيد يخرج من البيت (زعلان) دون أن يحس به سلمان، ويحاول سلمان ردم هذه الهوة وإعادة العلاقات لطبيعتها السابقة، بتكرار زيارته والاعتذار منه، ليكمل السيّد الحكاية، حيث وبعد مضي سنوات تصل أخبار بأن حبيبته تزوجت، ولديها أطفال، وتعيش في منطقة أخرى.
لنصل الى المفاجأة الثالثة والتي تثير الشجن والحزن، حيث وصلت رسالة من السيّد بوفاة ابنته خديجة، ولأن الرسالة وصلت في وقت الامتحانات فإن سلمان يتأخر ثمانية أيام قبل أن يسافر الى العمارة، ودار حوار بينه وبين سائق التكسي:
(- جاي تقره فاتحة؟
فقلتُ وقد ألمّت بي دهشة لا تخلو من سعادة إذ افترضت أن ݘادر العلوية خديجة قد يكون منصوبًا، لسبب ما، إلى الآن:
– الݘادر بعده منصوب؟ شعجب؟
– ايه.. بعده الݘادر منصوب؟
فقال السائق وقد تعمّد النظر في وجهي بتمعّن:
– عن يا ݘادر تحݘي؟ ݘادر البنّية طاح من زمان.. ݘادر السيّد هاني بعده منصوب!!) ص 235
وهكذا ولكي لا يكون الروائي أسير الحكاية المغلقة، ونهايتها، وقد وجد فسحة طيبة لنثر التداعيات المؤثرة والمتأثرة بوفاة سيّدة هاني، فقد نقلنا الروائي وبكل اتقان وبلغة سردية حسية روحية شاعرية شفافة هادئة، لندور في هذا التأثر، وقد جاءت منسجمة مع السياق الفني لحركة السرد، دون أن نحسها خارج متن النص، وكذلك ليكون سلمان أمينًا ووفيًا لصديقه، فقد قرر أن يقرأ حكايته الجميع ولا سيما حبيبته التي تزوجت وانجبت اطفالاً، وربما أنها لم تعلم حتى الآن بوفاته.
أما (عرگشينة السيد) فإن سلمان وجدها في بيته، واحتفظ بها بموافقة السيد وظل يرتديها لتبقى ذكرى لواحد من رجال أهل الجنوب الطيبين وحكايته.