سلام مكي
ما تعرض له الشعر العربي في منتصف القرن الماضي من ثورة على القيود القديمة، وما أنجزه جيل الرواد أو جيل الحداثة الأول، كما يطلق عليه بعض النقاد، وما قدمه الجيل الثاني، من إسهامات كبيرة في سبيل تطوير الشعر العربي وأخذه نحو مساحات أكثر وسعا من المساحة التي وصل إليها الشعراء الرواد، يستدعي من الشاعر الذي قرأ وأطلع على كل التجارب الشعرية التي جاءت بعد الجيل الثاني وصولا الى جيل ما بعد التغيير، ومحاولات بعض الشعراء أخذ الشعر إلى مساحات جديدة، يستدعي منه أن يتجاوز الأشكال القديمة، والأنساق التي كان الشاعر القديم يكتب بها، وأعني الأغراض الشعرية من مدح وفخر وهجاء… فقصيدة الغرض، وخصوصا المدح، كان تحقق هدفا اجتماعيا وسياسيا للشاعر وللممدوح في آن واحد. كان الشاعر يقف على باب خيمة الأمير ينتظر أن يؤذن له بالدخول، يقدم بضاعته أمام الأمير ومن ثم ينتظر العطاء. أما في الوقت الحاضر، فإن وظيفة الشعر اختلفت، ومزاج الشاعر اختلف، واختلفت معه النظرة الى الحاكم أو القائد، خصوصا بعد أن أوجدت الظروف السياسية خلافا مزمنا وعداوة بين الطرفين: الشاعر بوصفه مثقفا والحاكم بوصفه السياسي صاحب القدرة والامكانية على فعل ما يريد. بينما المثقف لا يملك سوى كتاباته وأدواته في التعبير عن رأيه. وغالبا ما يفتقد لهذا الشيء، عندما يصادر السياسي تلك الحرية.
ومع ذلك، فليس من المستغرب أن نجد شاعرا ما، يقف أمام سياسي، وفي مهرجان ثقافي، يقرأ قصيدة من الشعر القديم، غرضها مدح ذلك السياسي، واصفا إياه بشتى الصفات التي لا تليق إلا بالصالحين والأولياء! هذا الشاعر، الذي تجرد من الانسانية حتى، عندما يمدح شخصا عليه الكثير من علامات الاستفهام، ومتهم بالكثير من الجرائم، يقف ليمدحه، كي يحصل على فتات أو قد لا يحصل عليه. هذا الشاعر، باع شعره الى ذلك السياسي، وكان المقابل لا شيء. وشعره الرخيص حقق له مكسبا آنيا، قد يتصور أنه كبير، ويستحق أن يكون أي شيء مقابله، لكن في الحقيقة أن الشعر لا يقدر بثمن، خصوصا الشعر الذي يوظفه صاحبه، لأهداف نبيلة، سامية، تقدم أسئلة الشاعر للعالم، لينتظر بعدها إجابات من الآخر. إن قصيدة الغرض وخصوصا المدح، يفترض أنها ماتت مع موت آخر شاعر قديم، طاف على الملوك والأمراء ليمدحهم، مقابل خدمات تقدم له، وأن تولد بدلا عنها قصيدة الانسان، الباحث عن ذاته من خلال الشعر. الانسان الباحث عن حقيقة وجوده، والعاجز عن أن يخرج ما بداخله، سوى بالكتابة، بطريقة لا يمكن لغيره أن يكتب مثلها. أما الذي يكتب ليضخم أنا غيره، ويتنازل عن روح الشعر، مقابل جسد لا روح فيه، يستحق أن يرمى في نفس الحاوية التي سيرمى بها الممدوح!