احدى أكثر العبارات رواجاً في الادبيات السياسية هي “الوطنية ملاذ الاوغاد”، ولنا كعراقيين تجربة قاسية ومريرة مع تجلياتها العملية، التي حولت حياتنا طوال أكثر من نصف قرن؛ الى سلسلة من الكوابيس لم تنقطع الى لحظة استلام فايروس كورونا المستجد لمقاليد الامور. لعلل واسباب كثيرة تطرقنا الى البعض منها؛ وعلى رأسها فولكلور “الافلات من العقاب” و منهج “القاء القبض على الضحية واطلاق سراح الجاني” وغير ذلك من معايير وثوابت الخراب؛ تعرض هذا الوطن وسكانه من شتى الرطانات والهلوسات والازياء، الى استباحات لا مثيل لها، وما نعيشه اليوم من عجز وهزائم متتالية وضياع، لا يؤكد ذلك وحسب، بل يدعو الى تناول هذا الامر بعيدا عما تضخه ملاذات الاوغاد المستجدة من رذاذ. انها ومن دون ادنى شك مهمة بالغة الصعوبة والتعقيد، فالاجيال الجديدة التي يقع على عاتقها القسط الاكبر من هذه المهمة، تحتاج الى معونة ومشورة أجيال سبقتهم على هذا الطريق، والمشكلة تكمن في الكم الهائل من حطام “الكبار” الذي خلفته حقبة النظام المباد، وعدم امتلاك الاجيال الجديدة المراس والخبرة للتميز بين ذلك الحطام الصاخب في المشهد الراهن، وذلك القليل من كبار السن الذين جسدت رحلتهم قول الشاعر: “صن النفس واحملها على ما يزينها/ تعش سالماً والقول فيك جميل”.
يقول اريك فروم “كل نوع من التشجيع المغلوط فيه؛ قاتل مؤذ… فاذا شجعت شخصاً وبالغت في تقليل شدة المشكلة، فانني لا اقوم الا بايذاء الشخص، وذلك ببساطة لاني أمنع طاقة الطوارئ من الظهور”. لنتفحص وعلى ضوء ما قاله ذلك العالم الجليل، ما قام به حطام “الكبار” والمتمترسين بعناوين الليبرالية والحداثة والثقافة والديمقراطية واليسار، من ادوار وخطابات تجاه التظاهرات والاحتجاجات العراقية الاخيرة، وبنحو خاص ما ضخوه من مدائح مجانية لشريحة الشباب التي شكلت جسم وراس رمح تلك الاحتجاجات. الا ينطبق كلام اريك فروم تماماً على ما جنوه بحق الشباب، عندما اوهموهم بان حماستهم وروح الايثار لديهم كافية لتحقيق الانتصار الساحق والنهائي. لقد كشفت الاحداث وما رافقها من عواقب وتداعيات حجم خطر “التفاهة” عندما تتسلل الى مواقع وأدوار متنافرة وكل ما يعرف عنها من سلوك وممارسات مشينة. عندما نتمعن جيدا بمثل تلك “النصائح” وظاهرها المدائحي والمفتون بما يقوم به الشباب، نجدها على صعيد الفعل لا تمثل سوى الخيانة والخذلان لما تحتاجه الاجيال الجديدة عادة في مثل هذه المواجهات.
ان “خطورة هذا التشجيع المغلوط فيه” يدفع المحتجين الى ما عرفناه عندما كنا في أعمارهم؛ الا وهو تقديم ما يعرف بـ “التضحيات الباردة”، ومع الامعان في طرق هذه المسارب المميتة، تحجب عنهم امكانية وعي التجربة واستحصال الدروس المفيدة للمواجهات المقبلة، وكما يقول الحكماء “الجيوش المهزومة تجيد التعلم”. لقد حاولت جاهدا وعبر سلسلة من الاعمدة والمقالات واللقاءات، مد يد العون للمحتجين الحقيقيين ولا سيما منهم شريحة الشباب الواعي، كي يتمكنوا من الاقتراب أكثر الى المواقف والقرارات العقلانية، وقد جاءت الاحداث والتطورات لتؤكد ما حذرنا منه، كما ان غير القليل من نشطاء الاحتجاجات قد توصلوا لمثل تلك القناعات، بعدما اصطدموا مباشرة مع المآرب المشبوهة والمصالح والقيم والممارسات البعيدة، عما هدهدته تطلعاتهم العادلة والمشروعة. ولكم بعد هذه التجربة المريرة والخسائر والتضحيات، ان تلتفتوا الى هذا القاتل الخفي والمتمرس والمتسلل الى صفوفكم عبر وابل من المدائح والاطراء الرخيص واللئيم… انها ملاذات الاوغاد ومستنقع سلالاته المستجدة والمدججة بالعناوين البراقة…
جمال جصاني