لقد اتاحت وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة (السوسيال ميديا) الفرصة والوسيلة، لقطاعات واسعة من شتى المستويات والقناعات والميول، كي تعبر عما يجول بخاطرها من مشاعر وقناعات وأفكار. وكما هي عليه مجرى الامور في مضاربنا المنكوبة برعبلة المعايير، سرعان ما تم استباحتها من القوى والمصالح وسكراب القيم المهيمنة على تفاصيل حياة الناس (افرادا وجماعات). وبما ان حقبة الفوضى الخلاقة قد قذفت “حرية التعبير” الى مستويات لم تعرفها بلدان رائدة في مجال الحقوق والحريات؛ حيث “حرياتنا” لم تحجب عطاياها عمن ارتكب ابشع الجرائم والانتهاكات، فلا يكتفون بعدم وضع القتلة والمجرمين خلف القضبان وحسب، بل يسمح بالاحتفاء بمآثرهم الاجرامية والارهابية. بالله عليكم ما الذي تعنيه كل هذه الخسة والدونية والضحالة في الدفاع عن النظام المباد وجرائمه التي عدتها الاسرة الدولية؛ جرائم حرب وابادة للجنس البشري..؟ حملات دفاع وتبرير لكل تلك الانتهاكات التي تستحي منها الضواري، تحت ذريعة الحق في “حرية التعبير” وغير ذلك من قاموس المفردات المحرمة أيام العصر الزيتوني.
لقد استبيحت هذه المنحة الاممية “حرية التعبير” وتفرهدت، قبل أن تصل الى اصحاب المصلحة الفعلية بها وبمنظومتها المناصرة لكرامة الانسان وتطلعاته العادلة والمشروعة. نعم، كانت لحظة الاطاحة بالنظام المباد، بمثابة فرصة لا تقدر بثمن لتحرر العراق وانتقاله الى مرحلة جديدة مغايرة تماماً، لما رسخته تجربة الخنوع والاستبداد المطلق من انحطاط وذل وهوان، غير ان مسار الاحداث وبفعل ما طفح من مخلوقات وجماعات وخطابات ورايات منقرضة وثارات صدئة وغير ذلك من حطام البشر والقيم، جرف مركب التحولات والاهتمامات الى مسارب لا علاقة لها بكل ما يمت بصلة لشروط ومتطلبات ما يعرف بـ “العدالة الانتقالية”. لم يمر وقت طويل حتى وجد العراقيون ومن شتى الرطانات والهلوسات، أنفسهم أمام معسكرين لا ثالث لهما؛ من تلقف مقاليد امور الغنيمة الازلية، أو ما أطلقنا عليهم لقب “قوارض الفتح الديمقراطي المبين” وفي الضفة الاخرى واجهات وفلول النظام المباد المسكونون بحلم (العودة) واسترداد الفردوس المفقود. غير ذلك لا وجود سوى لبيادق بائسة تترنح بين المعسكرين.
عندما نتفق على هذه المخططات الاولية للمشهد الراهن، نكون قد وضعنا قدمنا على طريق فك شيئاً من طلاسم محنة “حرية التعبير” في عراق ما بعد “التغيير”. تحت وطأة شبكة ملتبسة من الصراعات والتواطؤ والتجاذبات، بين معسكرين كلاهما لا يطيق سماع أي شيء يتعلق بهذه المفردة المارقة “الحرية” والتي فرضها عليهم المشرط الخارجي، وفي ظل شروط غير طبيعية للحياة، ولا سيما في مجال انتاج الخيرات المادية وتراكمها وتوزيعها؛ وما يرافق ذلك من سكراب قيم وممارسات وقائمة اولويات واهتمامات، يتربع على سنامها الجشع والشراهة والفرهدة وضيق الافق وما يرافقها من استباحات لكرامة الآخر وحقوقه؛ يصبح امر تبرير كل انواع الجرائم والانتهاكات، ضمن نطاق وجهات النظر وما تبيحه منظومة “حرية التعبير”. ان المخاتلة والمواقف الجبانة والوصولية في مواجهة هذا العار الاخلاقي والقيمي، لن يفضي لغير المزيد من العتمة والهزائم والخيبات. ان الموقف من الجريمة في بلد ارتكبت على تضاريسه أبشع وأفظع واوسع انواعها؛ هو رأس كل المتطلبات والشروط لوجود عراق آمن ومستقر، أما حذلقات حطام البشر وما ينضح عنها من سموم، فلا عقار لها سوى الحظر والردع والحجر وباقي السبل المجربة التي اتخذتها الامم التي وصلت لسن حرية التعبير..
جمال جصاني