جمال جصاني
بعيدا عما تراكم من انقاض ونعوت وخطابات وسكراب تأويلات على تلك (المحطة- المفترق) في تاريخ العراق الحديث (9/4/2003)؛ الا ان مشهد ابو تحسين وهو يصفع بشحاطته صورة ذلك الذي انتشل لاحقا مذعورا من جحره الاخير، وصرخته التي اختزنت مشواراً طويلاً من الضيم والوجع “انتو متدرون اسوه بينه هذا..”، قد حفر لذلك الحدث مكانته واهميته الحقيقية في الوجدان الشعبي. أما ما حصل بعد ذلك من أحداث وردود افعال وخيبات، فلن يعطيها حقها؛ سوى الغائب والأكثر انكماشاً فيما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية؛ أي العقل والبحث الشجاع والمتوازن والرصين، لا سكراب خطابات “الفلول” وفزعاتهم و “مقاومتهم الشريفة” المعتصمة بتعويذة “ما بني على باطل فهو باطل” وما خلفته ماكينة مسخهم الممنهج للبشر والقيم من قوافل “المعطوب والمذعور” وما كشفت عنه؛ مواهب ورشاقة شبكاتهم العنكبوتية لشيطنة كل ما جاء بعد التاسع من نيسان العام 2003. في ذكرى زوال أحد أبشع الانظمة التوتاليتارية في التاريخ الحديث (9/4/2003- 9/4/2020)، نجد أنفسنا كمؤسسات دولة ومجتمع (افرادا وجماعات) في وضع لا نحسد عليه، وعلى مسافة بعيدة جداً عما هدهدته مخيلات العقلاء والاحرار من تطلعات ومشاريع عادلة ومشروعة لهذا الوطن القديم واهله.
هذه المرة احاول أن الفت انتباه القارئ الى ما تهرب منه غالبية القوى والعقائد والمصالح، المسؤولة عن كل هذا الخراب الذي لحق بتلك الآمال المغدورة، أي واجهات فلول النظام المباد المسكونة بحلم استرداد الفردوس المفقود، والقوافل التي تلقفت اسلاب الغنيمة الازلية. طبعا هذا لا ينفي الجانب الآخر (الخارجي) وبنحو خاص الدور الاميركي المرتبك والارتجالي في التعاطي مع بلد مثل العراق بكل تعقيداته التي وصلت برفقة حثالة البشر، الى مستويات واحوال يعجز عن فك طلاسمها اشهر علماء النفس والسياسة والاجتماع. هذان الخصمان وبالرغم من مناوشاتهما ونزاعاتهما التي لم تنقطع يوماً، الا انهما على ارض الواقع يقدمان الخدمات المتبادلة لبعضهما البعض الآخر. وهذا ما يمكن اقتفاء اثره منذ لحظة تلقف شحاطات اطفال بغداد لرأس الصنم في ساحة الفردوس، الى اليوم الذي استلمت فيه الفايروسات المستجدة مقاليد الامور.
أربعة عقود من عمل ممنهج لاستئصال كل ما له علاقة بحيوية المجتمعات والامم؛ أي التعددية السياسية والنقابية والتنوع والثراء الثقافي، مع خطط شيطانية لا مثيل لها لمسخ البشر وسحق بوصلاتهم وارثهم وشيمهم القيمية والمعنوية؛ انحدرت بنا الى ما نحن عليه اليوم من عجز وذل وتشرذم وهوان وفشل في تقديم بدائل وطنية وحضارية تتصدى لقوارض المشهد الحالي. بالله عليكم القوا نظرة سريعة على حال واحوال جميع الكتل والاحزاب والنقابات والاتحادات المهنية وغالبية ما يسمى بمنظمات المجتمع المدني، واشملوا بنظرتكم تلك المؤسسات التقليدية الدينية والعشائرية والاسرية، وتطلعوا قليلا على ما تبقى من لصوص العناوين والواجهات الجميلة (المدنية واليسارية والعلمانية والحداثوية وما يلهث خلفهم من دغل الانتلجينسيا..) ومن بسط هيمنته على وسائل الاعلام بشتى اشكالها ووظائفها، وبعد أكثر من 17 عاما على “التغيير”… فما الذي تجدونه غير الخراب الشامل الذي خلفته غفلتنا التاريخية التي سمحت بتسلل “حثالة الريف وأوباش المدن” الى مقاليد مصير الوطن والناس. عندما نتفق على ذلك سيكون بمقدورنا التعاطي مع ما جرى في التاسع من نيسان العام 2003 وما تبعه من أحداث، بشيء من التوازن والمسؤولية والشجاعة والانصاف…