علي بدر
كانت هنالك فكرة عند بعض المثقفين في الغرب ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى وبعد تقدم العلوم الطبية في أميركا خصوصاً وانقاذها لحياة ملايين البشر واطالة معدلات العمر، أن البشرية مقبلة على قنبلة ديموغرافية، وهي فكرة عنصرية ولا إنسانية بالمطلق، ولكنها لم تكن عدوانية عند البعض إنما فكرة قائمة على فرضيات علمية خاطئة منها مالتوسية ودارونية، من بين أول من دق ناقوس الخطر كان الروائي الانكليزي ألدوس هكسلي. بروايته عالم جديد وشجاع والتي نشرها في العام 1932، وقد تصور مجتمعاً مستقبلياً يتم التحكم في أعضائه بالكامل من خلال تحسين النسل. الكتاب لم يكن مدافعا عن الطوباوية كما يعتقد البعض انما هو كتاب عنصري لأنه يروج لفكرة خطر الانفجار السكاني، ولم يكن وحده بل كانت هنالك طائفة كبيرة من المثقفين الذين روجوا لعقم العالم الثالث لكي لا يشكل خطرا على الحضارة. منهم ماديسون غرانت في كتابه غزو قارة، وهارولد دنين في كتابه القنبلة السكانية، وأوزبورن في كتابه الكوكب المسروق.
كان هكسلي في روايته هذه يريد تأسيس نظام اجتماعي في حضارة علمية يتم تنظيمه على أساس طبقي. سيكون الحكام وخبراءهم الاستشاريون نوعاً من البراهمة الذين يسيطرون، بحكم معرفة خاصة وغامضة، على جحافل شاسعة من الناس. لقد اختار هسكلي أن يركز حجته على الخطر الذي يشكله الاكتظاظ السكاني في العالم الثالث – وقد لعب على مخاوف قرائه في الحرب الباردة، وحذر من أنه سيؤدي هذا إلى ثورة شيوعية (لقد اندهشت حينما قرأت مرة في كتاب جورج فارغ عن حياته انه من أصدقائه المقربين ومن حلقته الينور ابنة ماركس). لقد جعل هكسلي من التكاثر المفرط غير الأبيض ذا صلة بخطر على الحضارة الغربية. وهاجم هكسلي المادة الكيميائية التي كانت تفعل أكثر من أي مادة أخرى لإبقاء الفقراء على قيد الحياة وهي مادة الدي دي تي، فما هي قصة الدي دي تي التي يتذكرها العراقيون جيدا.
في الأيام الأخيرة من سبتمبر 1943، عندما تقدم الحلفاء ضد الألمان الذين كانوا يقاتلون في شوارع نابولي في إيطاليا، قام النازيون الغاضبون، بعمل إجرامي للانتقام من حلفائهم السابقين، فقاموا بتدمير قنوات المياه والخزانات ونظام الصرف الصحي في المدينة بشكل منهجي. وقاموا بحرق مكتبات لا يمكن تعويضها لآلاف من المجلدات حيث حاضر توما الأكويني في يوم ما. وبعد ان تحررت المدينة وغادرها الألمان كان يبلغ عدد سكانها أكثر من مليون شخص، فتركت بدون مرافق صحية، وفي غضون أسابيع، كما أراد الألمان، اندلعت الأوبئة. بحلول شهر نوفمبر، أصيب الآلاف من النابوليين بالتيفوس، مع وفاة واحد من كل أربعة أشخاص بسبب المرض الذي ينتقل عبر القمل. كان عدد القتلى كثيرين لدرجة أنه، كما هو الحال في أيام الطاعون أو الموت الأسود المظلمة، تم إخراج الجثث إلى الشارع من قبل المئات ليتم نقلها بواسطة عربات. فاتصل الجنرال آيزنهاور بواشنطن ووجه نداء يائسا للمساعدة في احتواء الكارثة، لحسن الحظ، كان هنالك سلاح سري جديد جاهز في الوقت المناسب للتعامل مع حالة الطوارئ. كان يطلق عليه DDT، مبيدات “الآفات ذات الفعالية غير المسبوقة”. تم تصنيعه لأول مرة من قبل طالب دراسات عليا في عام 1874، بحلول 1 يناير 1944، وصلت أول شحنات لما قد يصل في النهاية إلى ستين طناً من مادة الـ دي. دي. تي. تم إنشاء محطات في قصور نابولي، وبينما كان الناس يمشون في طوابير، قام ضباط الشرطة العسكرية ببنادق الرش بغبارهم باستخدام مادة الـ دي. دي تي. طافت فرق الرش الأخرى المدينة، كانت الآثار أقل بقليل من الإعجاز. في غضون أيام، تم القضاء على العدد الهائل من سكان القمل الذي يحول التيفوس في المدينة الى موت حقيقي؛ وبحلول نهاية الشهر انتهى الوباء.
سير الحلفاء مسيرات الـ “دي دي تي” مع القوات نحو الملايين من ضحايا القمع النازي – مدنيون تحت الاحتلال، وعمال عبيد، وأسرى الحرب، ونزلاء معسكرات الاعتقال – كانوا يموتون في حشود من الأمراض المنقولة بالحشرات. فجاءت الفرق التي ترش مادة الـ دي. دي. تي، ومعها تعاد حياة الملايين التي كان محكوماً عليها بالدمار. تكررت القصة نفسها في الفلبين وبورما والصين وأماكن أخرى في مسرح آسيا والمحيط الهادئ وفي العراق وفي الهند. لم يسبق في التاريخ أن أنقذت مادة كيميائية واحدة الكثير من الأرواح مثل مادة الدي دي تي في هذا الوقت القصير، ويتذكرها العراقيون جيدا حينما كانت تطوف هذه السيارات في شوارع بغداد والمحافظات. في عام 1948، تقديراً لدوره في هذه المعجزة في مجال الصحة العامة، حصل بول مولر على جائزة نوبل للطب.
بحلول منتصف الخمسينات. انخفضت حالات الإصابة بالملاريا في جنوب أفريقيا بسرعة بنسبة 80 في المائة ، في العراق بحوالي 90 في المئة، في بورما حوالي 95 بالمئة؛ لقد تم تنفيذ هذا المشروع بنجاح عبر مناطق واسعة من العالم النامي، وسرعان ما خفض هذا الجهد معدلات الإصابة بالملاريا في العديد من البلدان في أمريكا اللاتينية وآسيا بنسبة 99 بالمائة أو أفضل. حتى بالنسبة لأفريقيا كان الأمل في وضع نهاية لهذه الآفة القديمة حاسماً.
لكن هذا الانتصار الهائل للبشرية لم يرض الجميع. بالنسبة لأولئك المهتمين بالإغراق المحتمل للعالم بأشخاص غير مرغوب فيهم (أي غير البيض)، فإن القضاء على الملاريا من المناطق الاستوائية على الأرض لم يكن سوى نقمة، وبدأ التحريض على هذه المادة ومنهم مع الأسف واحد من أهم كتاب القرن ألدوس هسكلي الذي كتب: “…نذهب إلى جزيرة استوائية، وبمساعدة الـ دي. دي. تي، نقضي على الملاريا، وننقذ مئات الآلاف من الأرواح في غضون عامين أو ثلاثة. من الواضح أن هذا جيد. لكن مئات الآلاف من البشر الذين تم إنقاذهم على هذا النحو، والملايين الذين ينجبونهم، لا يمكن إلباسهم بشكل كافٍ، أو إسكانهم، أو تعليمهم، أو حتى إطعامهم من الموارد المتاحة في الجزيرة. الموت السريع بسبب الملاريا أفضل (كذا….)؛ لأن الحياة ستصبح بائسة بسبب نقص التغذية والاكتظاظ السكاني.”
من حسن الحظ لم يكن الجميع مثل هكسلي، فقد جوبهت هذه العصبة المعادية للإنسانية بهجوم واسع من قبل كتاب وفلاسفة تنويريين ومصلحين جعلوا من حياة البشر قيمة عظيمة على هذا الكوكب.