عبد علي حسن
منذ ديوانه الشعري الأول ( فليتقدم الدهاء الى المكيدة ، وهو مطولة شعرية صدرت عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين /1994 ، وافق الكتابة الشعرية عند الشاعر رعد فاضل يمتد ليرتاد أقانيم غير مأهولة في الشعرية العراقية ، وسيزول العجب من ذلك حين نعرف أن الحاضنة الشعرية لتجربة رعد فاضل هي منظومة الجيل التسعيني الذي اجتهد في تقديم نمط جديد لقصيدة النثر العراقية والعربية عبر اهتمامه في استيعاب الفضاء الفكري والشكلي لقصيدة النثر ، والخروج بمقترحات جديدة تمكنت من فرز تجارب جادة ومؤثرة ومتميزة في كتابة قصيدة النثر العراقية الجديدة ، ومنها تجربة الشاعر رعد فاضل التي لم تتوقف عند تجربة متكررة عبر مسيرته الشعرية ، بل تجاوزت الى الكشف الدائم والاجتهاد لممارسة الشعر والقيام بفتوحات شعرية جديدة عبرت بالنثر من مستواه الاستهلاكي والمألوف والمتوقع الى تخليق حركية تنتشل النص من ارتباك الشكل واعتيادية المضمون ، وبذلك فقد قدم الشاعر رعد فاضل فهما صائبا لموجهات قصيدة النثر بعدها جنسا ظهر في الحاضنة الثقافية للآخر في منتصف القرن التاسع عشر في فرنسا ومنها امتد الى سائر البنى الثقافية للمجتمعات الاخرى ، ولعل الطاقة التعبيرية التي تمتلكها قصيدة النثر هي التي استأثرت بمكان الخلفية الشكلية لإحتواء تجاربه التي يتقدم فيها المعرفي على الجمالي مؤكدا دور اللغة في استنهاض طاقتها التعبيرية شكلا ومضمونا ، ومن دون أن اي اعتلال في الكشف عن شعرية اللغة النثرية في انسجامها مع المضمون المعرفي والرؤية الفلسفية التي يحرص الشاعر رعد فاضل على بثها في خطاب نصه الداخلي والخارجي ، وجدير بالذكر ان هذه المنطقة في اشتغال النص الذي سأسميه (النص المفكر) تعد من المناطق الصعبة والنادرة في الخطاب الشعري العربي والعراقي على حد سواء كما في تجربة الشاعرادونيس خاصة في تجاربه الأخيرة وتجربة الشاعر العراقي الراحل محمود البريكان وقليل من الشعراء العرب والعراقيين ، وتتجلى صعوبة الدخول الى هذه المنطقة هي في قدرة الشاعر على الموازنة بين ماهو شعري وماهو معرفي محض ، وفي هذه المنطقة تحديدا كان اشتغال الشاعر رعد فاضل الجديد في كتابه الشعري ( شذرات حكمة ضالة ) الصادرة عن دار مومنت/ 2014 . يحيل عنوان الكتاب الى الحديث النبوي ( الحكمة ضالة المؤمن ، أنى وجدها أخذ بها ….ابن ماجة في سننه) فإذا كانت (الحكمة) تعني الفهم والمعرفة فإنها (ضالة) تائهة ومن الممكن أن تجري على اي لسان او استخلاص لأي موقف ، وعلى المؤمن الظفر بها والأخذ بها.
ثنائية الشعر والحكمة
وأزاء هذا الفهم فإن الشاعر رعد فاضل يشير في كلمته التي تصدرت الكتاب الى حيثيات مهمة نصوصه التي تآزر فيها الشعري بالنثري الى تجنيد طاقة التعبير السردي ليس تنويعا على مقولات الحكمة (صيرورتها) وفهمها المتداول وانما ( هو تحريض للحكمة من جهة كونها مغردة حياة وثقافة وحب وتفكر وتفلسف …. النص ص5) ولعل التوصيف الآنف الذكر يشير الى محاولة النصوص لتنأى عن منطقة طرح مقولات (حكمية) ووصايا ، لتحلق في فضاء شعرية اتاحتها طاقة النثر للكشف عن حركية الحكمة في تفاصيل حياة الانسان والاشياء ، ففي احدى النصوص تتكشف مهمة هذه الشذرات وكذلك مهمة الشعر :- ( الشعر لايعاشر الحكمة، لايكلمها، ولايتكلم عليها ، انه من بعيد يناوشها…. النص ص 59) فالمناوشة هنا هي التفاعل مع مخرجات الحكمة — الفهم والمعرفة– في تعالقها مع الانسان وفعالياته المختلفة وكذلك حركية الاشياء ان كانت مستقلة او في علاقتها مع الانسان . وفي مكان آخر :- ( مالشعر الا كلام منقوع بعرق الحلم والوهم / ومخمر في دنان العقل. (تقرا الحكمة وهي تبلع ريقها وتجفف عرقها …….النص 60) فالنص السالف يكشف عن فهم صائب للشعر وماهيته ، ويثير (الحكمة) التي ما ان قرأت ذلك حتى أخذها الاندهاش وربما ادركت مفارقتها العقلية والمنطقية ، ويدرك الشاعر حاجته الى سبر اغوار فعل الحكمة ليعبر عن حركيتها شعريا ليبتعد عن جفاف المقولات فيشير:- ( الحكمة غالبا ما لاتعيش الا في ظل الأشياء ماتقول انت أيها الشعر؟ …. النص ص61) فالتساؤل هنا يثير قضية خلافية وهي التضاد الحاصل بين المنطق / العقل المستتبع بالمقولات والحلم والوهم واللاحقيقةالتي يعيش في كنف فضائها الشعر. فالشاعر رعد فاضل مدرك لما يقوم به في تعالق نصوصه مع (الحكمة ) ، وهنالك نصوص أخرى كثيرة في الكتاب تعالج هذه الثنائية التي ربما تقدم فيها المعرفي على الجمالي وتحول النصوص الى مجموعة من المقولات التي تذكرنا بالمتنبي وابي تمام.
صيرورة الموجودات بحس شعري
(الحكمة) لذا فإن الشذرات قد اتجهت الى تقصي (الحكمة) وتعالقاتها بعدها كائنة وليست في طور الصيرورة التي تنتج مقولاتها ، ففي النص التالي نقرأ :– ( على كتف كورنيش الموصل اليمنى ترقد بضع حكمات : عين كبريت ، شيخ الشط قلعة باش طابيا ، قليعات مقام الخضر ، قرة سراي ( القصر الأسود) ، وتمثال ابي تمام . ما أشد تعب هذه الكتف أيها التأريخ؟ ….النص ص15) ويتضمن النص جملة من الأمكنة المعروفة والمشهورة في مدينة الموصل ، وقد اكتسبت اهميتها لرسوخها في المخيال الجمعي بعدها أمكنة قد تعرضت للانتهاك بفعل احتلال القوى الظلامية للمدينة ، وقد شكل هذا الانتهاك ثقلا على كتف كورنيش الجانب الأيمن من المدينة الذي طاله الخراب والدمار. ولعل تشكل شعرية تلك (الحكمات) قد ساهمت به ثقل كتف الجانب الأيمن من الموصل و تساؤل النص حول التعب الذي كانت تنوء به تلك الكتف. وقد تبدى هذا التشكل خارج نسق صيرورة (الحكمات) والاكتفاء بتوكيد تشكلها عبر ثنائية البناء/ الهدم ، فالبناء قد تكفلت به القيمة المعنوية/ الداخلية التي كرسها المخيال الجمعي لتلك الأمكنة وما تعنيه في حياة المدينة ، اما الهدم الذي اسهم في تعب كتف الجانب الأيمن فقد أشار الى بنية الفقد لتلك القيمة المعنوية اثناء الاحتلال . ويمتد الشاعر رعد فاضل في نثر شذرات حكمته التي وجدها في الموجودات الظاهرة منها والمستبطنة ، كاشفا عن صيرورة تلك الموجودات بحس شعري مؤثثا لفضاء يستخلص الحكمة ، فهو يضع مقترحات لأنواع القلوب مشيرا الى حكمة توصله في اعادة تسميتها وفق تجاربه الخاصة ، فهو يرى ان الحكمة من :– ( القلب المحطم :– زهرية فارغة ، احيانا يشفق عليها بوردة اصطناعية. * القلب المهاجر : في كل حين تكن فيها وتطير . * القلب الطيب :– عبارة رومانسية / والعالم من حولها كتاب رياضيات . * القلب الشعري / والنثري : كل له عين ، فيما الكتابة كلها عيون . هذا ما اوحت به الي حكمة :- لايثبت على حال القلب ، وماالعقل الا من تقلب القلوب ….النص ص75) فعبر صيرورة تنوع القلوب وصولا الى توصيفاتها التي ابتعدت عن المفهوم القريب والمستهلك لتمنح صفة الشعرية التي خلقتها الصور المشكلة لخلاصة الهدف او الحكمة من تنوع تلك القلوب واكتسابها صفاتها التي امتدت مدلولاتها بعيدا عن الدوال المجردة والجاهزة. أما حكمة الصور الفوتوغرافية – بخاصة بالأسود والأبيض – فإنه يجدها ( لاتكمن في اللقطة وحسب ، ولكن فيما كنا نفكر فيه (حينها) أمام العدسة …..النص ص76) ، فهو يحيل الرؤية الظاهرية الى رؤية مبطنة / داخلية تنم عن جوهر الأشياء / الانسان لحظة التقاط الصورة.
الحكمة بوصفها
محصلة تجارب انسانية
ولعل دلالة الأبيض والأسود اشارة الى جوهر الذات الانسانية اثناء التقاط الصورة الساكنة الثابتة على لحظة الالتقاط. ومن شذرات الحكمة مايتصل بالكتابة عنها وبمواجهة مباشرة لتتخذ احيانا وضعا مؤنسنا واحيانا يقترح وضعا موازيا يعد مدلولا لها :– ( الضلالة حكمة غير انها أجنحة كلها ، من هنا لاعش لها ولاغصن …..ص9) ( للحكمة مشاغلها الشخصية ايضا من هنا تبدا ادوار قواليها….ص9 ) ( الحكمة فرس طاعنة في البياض والتجوال ، تعلف هدوءا وتسفى لبن جانب وحصافةصهيلها همس / وضرب حافرها لمس من اول مسروجة ، وأمراسها في يد العقل ….ص8) ( الحكمة جحيم غافية بين طيات الأشياء/ وفي ازهار دائم …..ص9) ( لابيت للحكمة الحكمة بيتها نفسها…..ص11) ( الحكمة لاتتنفس الا عبر كلمات قد لايكون لها بديل…..ص12) ففي النصوص السالفة وسواها من النصوص التي نحت نحوها ، قدم الشاعر رؤيته التعريفية للحكمة ، بعده شاعر يتحدث عن الحكمة بوصفها محصلة تجارب انسانية متسعة المدى ، فهو يقدم فهما متقدما عبر نصوصه المفكرة شعريا للحكمة . ( الحكمة ) لقد تمكنت نصوص (شذرات حكمة ضالة) من حرف الموجه القرائي المسبق باتجاه تقصي ( الحكمة) ووجودها على كل لسان واستخلاص لأي موقف حياتي ، وكذلك في الأشياء المتعالقة مع الإنسان ومع بعضها ، دون الوقوع في شرك الوصايا وبث الخطاب التعليمي والانجرار الى موقع (نص الحكمة) الذي انشغل به شعراء عرب قدامى ومحدثون ، اذ كرست تلك الشذرات اسئلة الحكمة بعدها تحصيل لموقف وكاشفة عن رؤية ورؤيا الشاعر في انوجادها بعد ضلالتها ، بعيدا عن المقولات الجاهزة المستخلصة من المواقف الحياتية وحركية الانسان والأشياء ، لذا فقد اتسمت تلك النصوص بالوحدة العضوية والموضوعية لتمتلك استقلالية بحثها وتقصيها ، وبهذا الصدد فقد تجلى دور اللغة في صياغة النصوص لحرف موجهات التلقي القبلية ، اذ حرص الشاعر رعد فاضل منذ العتبة الأولى التي تضمنت كلمته على مؤازرة الشعري والنثري في صياغة النصوص للكشف عن القدرات الكامنة في النثر لتخليق فضاء شعري تتحرك فيه موجهات نصوصه وشذراته ، مما كشف ايضا عن قابلية الشاعر على الدخول في هذه المنطقة الحرجة في قصيدة النثر العربية ليؤكد فرادته وتميزه في اسهامة مبتكرة لكتابة قصيدة النثر العراقية والعربية على حد سواء ، فقد كان مخلصا لتنفيذ وصية ( الحكمة) كما يراها هو وكما اوصته في آخر شذرة لها ( هذا مما فكرت به – انا الحكمة الضالة لكل رؤية ورؤيا ، مع رعد فاضل ، وأشبعناه تمحيصا ونقاشا ، ختمته بشمعي وخاتمي ، وأوصيت رعدا بكتابته ونشره ….النص ص 86)