الهروب من نفق مضيء
قصة هروب سجناء سياسيين من سجن الحلة المركزي عام 1967
تمكن الكاتب جاسم المطير في كتابه الهروب من جسر الحلة، أن يقدم للقراء حدثاً إنسانياً رائعاً بروح نضالية شبابية عالية الهمة ومسؤولة في آن واحد , حدث بدأ في منتصف عام 1967 وانتهى مع نهايات العام تقريباً.
كتاب المطير هذا ضم مذكراته عن ذلك الحدث البعيد وما رافقته من أحداث.
وفي هذا الكتاب ترك المطير للأخرين ممن جايلوا ذلك الوقت او عاشوا الحادثة، فسحة للحوار حين أكد على أن من يتحدث عن مسألة معينة سيراها من زاويته الخاصة , وبالتالي ترك المجال لمن يريد أن يدلي بدلوه في هذا الصدد , سواء بالإضافة أو إبداء الملاحظة أو التعديل. غير انه توخى في من يريد التحدث او الكتابة في هذا الأمر أن يكون ملماً به أو يسعى للإلمام به ومراجعة من عايش الحدث منذ البداية بهدف تجميع موزائيك اللوحة كاملة قبل البدء بالكتابة عنها. هكذا طلب جاسم ممن كتب عن الحدث حينذاك , وهكذا يفترض أن يكون.
ومن هنا تبادر ” الصباح الجديد ” الى نشر سلسلة حلقات من هذا الكتاب الشيق.
الحلقة 14
جاسم المطير
اقتضى في البداية مواصلة سلوك خاص بعد وضع ” خارطة التمويه ” قبل وضع ” خارطة الطريق ” لحفر النفق فتقرر ما يلي :
1 – الترويج بين السجناء بفكرة أن غرفة الصيدلية تم تخصيصها للمنظمة الحزبية للاجتماعات ولاستنساخ الجريدة اليومية وبهذا صار يمكن التردد على الصيدلية على مدار الساعة بدون إثارة أية شكوك ، خاصة وان غالبية السجناء يعرفون أن استنساخ الجريدة يبدأ من ساعة 11 ليلا حتى الساعة 6 صباحا .
2 – التردد على ” المطبخ والمخزن ” صار أكثر من السابق لتضليل الإدارة . وفعلا صارت تقارير عديدة تصل إلى إدارة السجن من رقبائها حول كثرة السجناء المترددين هناك ، بعد بناء الجدار الخشبي بين المطبخ والمخزن ، مما رفع ” درجة الشك ..! ” لدى مدير السجن فعزز رقابته عليهما بوسائله الخاصة المتزايدة كل يوم مما كان يثير سخريتنا باستمرار وفقا للأمثولة الشعبية القائلة : اليدري يدري والمايدري كضبة عدس ..!
3 – زيادة نشاط ممثل السجناء النقيب جبار خضير مع السجناء العسكريين داخل السجن حول قضية التطوع في حالة قيام الحرب مع إسرائيل من جهة . من جهة أخرى كانت لقاءات جبار خضير مع مدير السجن وبعض الإداريين الآخرين قد لعبت دورا مهما في تضليل الإدارة إلى درجة جعلتنا مطمئنين كثيرا من رقابة السجانة وبعض عملائهم داخل السجن .
بدأ فريق التنفيذ عمله الجريء والسريع ، أولا ، بإنجاز ما يلي :
1 – تأثيث غرفة الصيدلية القديمة المشخصة للحفر بما تحتاجه أرضيتها من بطانيات قد تستعمل كأكياس لنقل تراب النفق أو حفظه فيها ، وغير ذلك من وسائل الاجتماعات والكتابة والاستنساخ والحفر أيضا .
2 – أكمل فاضل عباس وعقيل حبش وحافظ رسن قياسات الطول والعرض والارتفاع للنفق المفترض حفره كي تكون القياسات المذكورة ركيزة فعلية لمراحل الحفر ودليلا في مسارات الحفر .
3 – – تبرير فصل الصيدلية القديمة عن الصيدلية الجديدة أمام الأشخاص المداومين في العمل الطبي حيث يداوم فيها موظف صحي وممرض وتم الاجتماع بهما من قبل حافظ رسن في اجتماع مكرس لهذه المهمة مقدما المسوغات لهذا الأمر الذي يخدم أغراض المنظمة .
4 – وضعت هذه المجموعة تصورها الخاص عن كيفية التخلص من التراب .
5 – وضع فريق التنفيذ خطة خاصة لاستنساخ النشرة السجنية اليومية في كل ليلة كما تم جدولة العمل والتنسيق بين مهمتي ” الحفر ” و” الاستنساخ ” إذ تم تخصيص بعض الوقت لاستنساخ الجريدة وبعض الوقت لحفر النفق .
6 – كانت هناك ضرورة ماسة لبعض التقطيعات الخشبية داخل الغرفة فأنجزها عقيل حبش بمفرده .
كل شيء جرى ، و صار يجري ، بسرعة ونجاح .
هكذا قال حافظ رسن ، ذات صباح ، أثناء تناولنا وجبة فطور متنوعة على مائدة نصيف الحجاج الكريمة دائما والجاهزة دائما . كان فيها جبن عراقي ابيض وجبن كرافت ومربيات وعسل إضافة إلى البيض المقلي وبعض الخضار والطماطم .
كان سرورنا كبيرا بهذا الخبر : نجح الفريق في وضع حجر الأساس للهرب . ثم شرح حافظ رسن بعض التفاصيل عن النجاح في فتح ” رأس النفق ” وتطويعه التام تحت ضربات الحفارين ، حيث منه سيتم الدخول إلى دروب الحرية .
أيقظ هذا الخبر الأولي ، السعيد ، كل حواسنا وأفصح عن قدرته في تغيير المرسوم على وجوهنا من علامات التقطيب والكآبة والانفعال والتوتر إلى فرح وابتسام وارتياح غمرت كل مسامة في جلود وجوهنا وبدلتها تبديلا .
كنت أظن أن من المهم جدا ً أن يشترك معنا الشعر والشاعر ، مظفر النواب ، في هذه الجلسة الافطارية كي تتسلل الفرحة إلى قلبه ، فقال حافظ أن قلب مظفر في غاية السرور الآن وهو نائم بعد أن عرف قبلنا بخبر نجاح الدقات الأولى في حفر النفق من عقيل حبش الذي سار إليه بخبر نجاح الخطوة الأولى فكان سروره لا يوصف وكان فجره اليوم مغمورا بالسعادة التي دفعته إلى النوم السريع بعد سهرة طويلة الليلة البارحة وهو يتابع مراحل العمل عن بعد وعن قرب .
نجاح الخطوة الأولى زادت ليس فقط آمال العاملين بالتخطيط والتنفيذ حسب ، بل زادتهم قوة واندفاعا ، ساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم ، لغرض الإسراع بتحقيق الهرب وإحباط أي إجراء قد تقدم عليه سلطات بغداد الحكومية بإعادة السجناء إلى نقرة السلمان ثانية .
كان مصدر الإنتاج الأول لدى الحفارين هو المجهود المضاعف الذي يبذلونه اليوم أكثر من الأمس وإنتاج الغد أكثر من اليوم . كان عملهم يستغرق وقتا طويلا في الحفر والاستنساخ وكانوا يستهلكون طاقة كبيرة في العمل . الخبرة تتراكم لديهم بعد أن ذللوا كل صعوبات الخطوة الأولى وصارت فتحة النفق واضحة للعيان وزالت مشكلة التخلص من التراب حين وضعوا تصوراتهم لحل هذه المعضلة .
وضعت اللجنة الثقافية في السجن برنامجا خاصا لمناسبتين وطنيتين قادمتين . الأولى هي ذكرى ثورة العشرين في 30 حزيران والثانية هي ذكرى حركة حسن سريع الثورية في 3 – 7 . كان نشطاء البرنامج الثقافي كل من الفريد سمعان وفاضل ثامر ويوسف الصائغ وآخرين . وقد كان برنامج الاحتفال بعيد العمال الذي جرى قبل أيام مضت قد خلا من مشاركة مظفر النواب لسبب حقيقي غير معلن وهو انشغاله بالمشاركة في التخطيط بينما اعتذر بسبب ” مرضه ” .. لكنه أعلن الآن استعداده للمشاركة في الفعاليات الثقافية والسياسية القادمة . كلفني يوسف الصائغ ونصيف الحجاج والفريد سمعان بضرورة تقديم محاضرة نفطية – سياسية عن إمكانية ” استخدام النفط كسلاح في المعركة ضد الاستعمار والصهيونية ” فوافقت فعلا على ذلك وتم تحديد الموعد الخاص بذلك .
مرة أخرى التقى بي حسين سلطان طالبا مني العمل في تحرير الجريدة السجنية فاعتذرت مجددا بسب مرضي أيضا . قبل اعتذاري وطلب مني كتابة بعض الافتتاحيات السياسية للجريدة بين فترة وأخرى، فرحبت بالاقتراح وقد وعدته بتنفيذ طلبه ، وقد ساهمت ُ عمليا بكتابة العديد منها في الفترة اللاحقة .
خلال اللقاء استنتجت من أحاديثه معي كأنما هو على علم بمرحلة الحفر الأولى فأيد حافظ رسن صحة استنتاجي قائلا انه شخصيا اخبره بالخطوة الأولى ونجاحها وأكد حسين سلطان ، من جديد ، على ضرورة مواصلة العمل وتهيئة مستلزمات الهرب حين تكون موافقة الحزب على العملية جاهزة .
مع مرور الأيام أصبح كل شيء هينا ً، فقد كان حافظ رسن ينقل لي ، في كل لقاء يومي بيننا ، أخبار الحفر ونجاح فريق التنفيذ الذي أصبح قادرا على تجاوز كل صعوبة في عملية الحفر بعد لحظة ولادتها . كما نجح الفريق في تصريف التراب خلسة عن أعين الجميع ، سجناء وسجانة ، وصارت أدوات الحفر نشيدا حقيقيا يتلوه الحفارون ، كل ليلة ، لفتح الطريق المؤدي إلى صفوف الحزب ، فقد كان اسم الحزب الشيوعي مكتوبا ليس فقط في ذاكرة الحفارين ، بل كان ملحا يرش به الحفارون أحشاء النفق لتزداد عزيمتهم .