يوسف عبود جويعد
عندما يكون بحثنا في النصوص السردية الروائية، لمعالم المتغيرات التي طرأت عليها، والإضافات الفنية الجديدة التي تنقلنا الى التحديثات التي حصلت لهذا الجنس الادبي، فستكون رواية (فضاء ضيّق) للروائي علي لفتة سعيد، واحدة من تلك السرديات التي حفلت ببعض المتغيرات في عملية البناء، فقد استطاع الروائي في هذا النص الى تحويل معالمه، من رواية تنتمي الى أدب السيرة، الى رواية تنتمي الى الواقعية النقدية، بطريقة مغايرة لما اعتدنا عليه في مجال فن صناعة الرواية، حيث انسلخت شخصيته من داخله لتكون في متن النص، متمثلة ببطل هذا النص (محسن)، ويكون هو بذاته بكامل تفاصيل حياته ( وأعني بذلك الروائي) وصار يتابعه ويحركه ويسير معه ضمن مبنى، من خلال الضمير المستتر في أعماقه، لكون الأخير سيقود مهمة إدارة دفة الأحداث منذ بدايتها وحتى نهاية الأحداث، ليكون هذا السارد بين راصد لتفاصيل تحركه وحياته داخل متن النص، وبين متابع ومذّكر وناصح ومرشد ومؤجج لكل الهواجس والتداعيات الذاتية التي تنبعث في لحظتها بسبب دورة الاحداث، ومن هنا يتضح لنا أن مهمة السارد لم تتوقف على حركة الاحداث، بل تعدت ذلك الى توضيح ملامح الشخصية وكل ما يحيط بها من مؤثرات، ومن الطبيعي في حالة كهذه تتغير لغة السرد لتكون ضمن السياق الفني الذي تتطلبه عملية تدوين الاحداث وفق تلك التراكيب الفنية التي اتخذها الروائي مساراً فنياً رغم صعوبته، لأنه في ذلك يعيش شخصيته داخل متن النص:
(كان محسن منشغلاً بحياته، وهو يقود أقدامه الى وسط المدينة حيث العمل الجديد الذي حصل عليه من قبل صديق له يعمل محاسباً في مؤسسة للأيتام. كان عاطلاً عن العمل لمدة شهرين منذ أن ترك العمل حفاراً للقبور، هارباً من جور المشاهد التي رآها والتي لم يتمكن من الاستمرار بها، حاملاً معه سؤالاً أرهب رأسه وأفكاره. أين العدالة؟ ولماذا يختلف المحصول الذي يزرعه الإنسان؟ ولماذا نتعكّز على القدر ونستسلم له؟ ولماذا نؤمن إن هناك دائماً من يحرّك الإحساس والمشاعر والعواطف؟) ص 9
ملامح الشخصية
وهكذا تتجلى لنا الملامح الاولى لشخصية محسن الذي هو النسخة الأصلية لشخصية الروائي زرعها في متن النص، ليتسنى له التحرك بكل حرية في فضاء هذا النص، من خلال السارد وهو ليس السارد العليم او السارد الخارجي او السارد الداخلي، وإنما هو ضمير الروائي ذاته انبرى ليقود عملية سرد الأحداث وفي ذلك موجبات ضرورية كونه سيتمكن من تقديم شخصية محسن بشكل متقن وكذلك تقديم أصدقاء محسن، مجتبى، وتحرير،وحليم، وعلاء، والأخير هو الروائي والقاص والفنان التشكيلي والناشط المدني المعروف (علاء المشذوب)الذي اغتيل بيد الغدر والخيانة، حيث سنكون مع التفاصيل الدقيقة لحياته وطبائعه وسلوكه وافكاره وكل ما يحيط به، ونقف على تفاصيل مهمة ستقودنا الى الأسباب التي اودت بحياته:
(لم يكن علاء يعبّر عن ارتياحه وهو يقود درّاجته الهوائية ويدخل الكازينو..تبدو على وجهه إمارات القلق وهو يحاول إخفائها ليبدو غير مبال بما حوله، ولديه القدرة على الصراحة والقبول بكل شيء. يفكّر بطريقته الخاصة ويفلسف إشكاليته مع الوجود والخلق والرب والدين، وله رأيه الخاص بما يدور من نقاشات حول الذات سواء الإلهية منها أو الإنسانية. وضع دراجته متكئة على سياج الممر الحديدي للكازينو ودخل الحديقة مرتدياً قميصاً أبيض بخطوط زرق)ص40
مناقشة التابوات
ومن هنا تنطلق أدوات السرد وعناصرها الفنية وثيماتها التي تتنامى وتتسع مع حركة الأحداث، حيث سنشهد تفاصيل حياة الروائي المتمثلة بشخصية محسن وهمومه الادبية وكتاباته وجلساته، وسنكون مع الفضاء الضيّق الذي تتمحور فيه الاحداث بين محافظة كربلاء، والقاهرة، لنتعرف على علاقة محسن بسلوى التي يعيد ذكرياتها بعد أن رأي صورتها الكبيرة معلقة أمام واجهة الشارع مرشحة للانتخابات، ويحاول جاهداً الوصول اليها، لكونها جزء من علاقة عاطفية مهمة في حياته، ومن الطبيعي وبعد أن نعرف أننا مع نخبة كبيرة من المثقفين رواة وكتاب قصة ونقاد ومتابعين للشأن الثقافي والادبي، سوف نتلمس ونحس ونكتشف ملامح الثيمة والافكار التي تتدفق، دون أن نجد صراع محتدم مثل بعض النصوص التي تطرح صراعات حياتية، وإنما نكتشف أن السرد يميل الى الهدوء وطرح الافكار الواعية والفلسفية ومناقشة التابوات التي يصعب اختراقها لحساسيتها، وصعوبة الخوض في غمارها، فقد وصف السارد شخوص وهم أصدقاء محسن بين (مقدس) وهو يكون ملتزم بالجانب الديني ويعده مقدساً ولا يمكن اختراقه، وبين ( المقندس) الذي هو بين بين، فهو لا يميل الى الجانب الديني بقوة ولا يميل الى الجانب الثقافي ويكون بينهما، وبين ( المدنس) وهو الذي لا يعير اهتماماً كبيراً لتلك التابوات وإنما يكون منسحباً للجانب السياسي اكثر، وتبدأ ومن خلال هذا التقسيم تحريك المبنى السردي لنعيش هموم البلد وتقلباته، في الثقافة والدين والسياسية، والبحث عن البديل الذي يكون من شأنه تدمير الحالات المنحرفة، ثم نكون مع شخصية حمدية، التي خسرت شرفها بسبب الفقر القاتل، الذي تعيشه والذي حدى بها الى التسول، ثم بيع شرفها بثمن بخس من خلال سحب الرجل الى المقبرة وممارسة الجنس في أحد القبور المحفورة والفارغة:
(يمرّ الشريط سريعاً. تلك اللحظة التي سمع فيها صوتاً مكبوتاً ليتبين وجود فتاة في حفرة القبر، وقد فتحت ساقيها لشاب قذر متسول ليمنحها اللّذة المجمّرة. كانت تقول له اضغط ولا تنتهي بسرعة ولا تتوقف. يمرّ الشريط لحظة مقايضته بمضاجعتها شريطة ألّا يتكلّم ولا يخبر أحداً. فيكتب في ورقة نسي ذكرها في تلك الرواية أن القبور لذة أيضاً ومكاناً لاكتشاف غياب العدالة في هذا الواقع المرّ الذي يترك مثل هؤلاء يبحثون عن تعويض الخسارات والنقصان من هذه الحياة) ص157.
وسيكون لشخصية حمدية دور كبير ضمن متن النص والاحداث تدور رحاها فيه، وكذلك الحال لشخصية سلوى، لأن الروائي اختارهن نماذج لتلك المرأة المغلوبة على امرها والتي خسرت شرفها لسوء العدالة وعدم نيلها حقوقها التي تستحقها، ويعتبرها خسارة كبيرة، وكذلك سوف نجد نماذج أخرى من خلال مؤسسة كفالة اليتيم التي يعمل فيها محسن، حيث نجد حكايات مشابهة لتلك الحكايات والذلة التي تعيشها المرأة من أجل الحصول على كفيل لليتيم الذي ترعاه.
ثم ندور في المحاور الاخرى التي يتضمنها السياق الفني لهذا النص، منها النقاش المستمر بين المقدس والمقندس والمندس، ورحلة بين القاهرة وكربلاء والحياة والطقوس والمقاهي والجلسات الادبية، والنقاشات الادبية.
وهكذا تستمر الاحداث لتجتاز الحبكة وتصل ذروة التأزم، لنقف مع اللحظات الاخيرة لاغتيال علاء المشذوب:
(وقبل أن يخط أوّل كلمة، جاءه اتصال من جمعة. وقبل أن يقول اهلاً صديقي سمع حشرجة بصوته.. وسؤالاً لم يكن بحاجة إلى إجابة، كأن سقف البيت قد سقط عليه واختنق بأكوام التراب.. سمع صوت جمعة:
- سمعت أن علاء قتلوه.. الخبر صحيح؟
لم يعد يعرف ماذا يفعل.. خرج الى الشارع، كان الظلام قد حلّ والكهرباء انطفأت ولم يتم تشغيل المولدة الكهربائية بعد.. عاد الى الغرفة، شعر إن كلّ جسده يرتجف. صرخ فأرتد الصوت عليه من الجدران.. بكى بكل قوّة.. اتصل برئيس الاتحاد.. صاح به أن يكذّب الخبر وليبكي بعدها عمراً.. لكن الجواب جاءه: - 13 رصاصة اخترقت جسده ودراجته الهوائية على صدره. ) ص 220 .
وهكذا نكون قد اخترقنا كل التابوات وسبرنا أغوارها وأخرجنا الصالح منها والصحيح ونبذنا مع النخبة الطيبة التي رحلنا معهم في فضاء هذا النص، وهم يواجهون همومهم ويبحثون جاهدين عن حلول بديلة، بسياق فني جديد، وايقاع وانسيابية هادئة نقية صافية، نعيشها وكأننا نشنف آذاننا بالحان موسيقية تأخذنا الى دهاليز ومتاهات، هي تلك الحياة المضطربة التي نعيشها في هذا البلد.