حازم الأمين *
المصارف قليلة الذكاء وقليلة القدرة على التوقع، ومدراؤها عديمو الحساسية حيال مأساة اللبنانيين. هذه فرصتنا لكي نعزز القناعة بجدوى العنف في مواجهتها.
كشفت المصارف اللبنانية عن وجه أكثر قبحاً من ذلك الذي كشفت عنه مع بداية ممارستها الـ”كابيتال كونترول” على ودائع اللبنانيين وغير اللبنانيين ممن ادخروا في حساباتها جنى أعمارهم. الـ”كابيتال كونترول” ضاعف خناقه منذ بداية هذا الأسبوع على رقاب المودعين. الـ200 دولار أسبوعياً التي أتيحت للمودعين، صارت نصف شهرية، في وقت استمر فيه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في إطلاق تصريحات الكذب والرياء والتي قال فيها إن الودائع بخير!
«الودائع بخير» قالها الحاكم، ولا «هير كات» قالها وزير المالية، هذا في وقت تزداد فيه وضوحاً حقيقة أن الودائع تم «التصرف» بها وهي ليست بخير على الإطلاق، والـ”هير كات” بدأت بشائره عبر مخاتلة المصارف للمودعين تارة عبر شراء أرصدتهم بـ70 في المئة من قيمتها من خلال وسطاء وسماسرة وظفتهم هذه المصارف وزودتهم بسيولة تتيح لهم إجراء هذه الصفقات، وتارة أخرى عبر إتاحة السحوبات بالعملة اللبنانية وفق سعر الصرف الرسمي. وهذا بدوره نوع ثان من الـ”هير كات” الإرادي تستفيد منه المصارف بالدرجة الأولى، وتعفي الدولة الفاسدة من مترتبات سندات الخزينة التي حصلت عملية نهب الودائع في ظلها بالدرجة الثانية.
المصارف اليوم أشبه بغربان يحلقون لالتهام الجثث التي خلفتها شراهتهم. ضاعفوا العمولات على عمليات التحويل الداخلي التي لا يشملها الـ”كابيتال كونترول”! لم يبرروا أسباب ذلك. كاتب هذه السطور توجه إلى مصرفه ليحول منه 470 دولاراً أميركياً لمصلحة سائق الحافلة التي تقل ابنه إلى المدرسة، فاقتطع المصرف 24 دولاراً أميركياً عمولة للتحويل. هذا نموذج صغير عما يحصل في هذه المباني الحديثة الزجاجية التي بنيت من أرباح هذا الجشع.
المصارف أيضاً فرصتنا لكي نعزز القناعة بجدوى العنف في مواجهتها. المصارف قليلة الذكاء وقليلة القدرة على التوقع، ومدراؤها عديمو الحساسية حيال مأساة اللبنانيين. في الصباح يعقد واحدهم ربطة عنقه ويتوجه إلى مكتبه لكي يستأنف مهمته في التهام مستقبل الناس. وهؤلاء ليسوا ضباطاً تدربوا على يد الحرس الثوري الإيراني، ولم يكتسبوا خبرات قتالية في الحروب الأهلية في سوريا والعراق واليمن. هم سماسرة في هذه الحروب، وخبراء التفاف على العقوبات المفروضة على أرصدة الميليشيات. هم الشركاء الأضعف ويمكننا محاصرتهم. وهم كاذبون على نحو أوضح من أقرانهم في الحروب.
المصارف اليوم أشبه بغربان يحلقون لالتهام الجثث التي خلفتها شراهتهم.
«الودائع بخير»، هل من كذبة أوضح من هذه الكذبة؟ الأرقام كلها تقول عكس ذلك، والمؤشرات تأخذنا إلى مزيد من الإفلاس، ناهيك بالممارسات، ففي اليوم الذي يعلن فيه الحاكم أن “الودائع بخير” تضاعف في المصارف الـ”كابيتال كونترول”، وحين يسأل الحاكم عن حقيقة ذلك يرد بأن على وزير المالية أن يجيب، فيما قال هذا الأخير إن الـ”كابيتال كونترول” إجراء مصرفي داخلي لا علاقة لوزارته به!
وفي هذا الوقت يتولى القضاء حماية أكبر مخالفة قانونية في تاريخ العدالة اللبنانية. في كل يوم ترتكب المصارف أكثر من 10 آلاف انتهاكٍ للقوانين عبر منعها أصحاب الودائع من الوصول إلى ودائعهم، وحتى اليوم اقتصرت الأحكام القضائية بإلزامها بتطبيق القوانين على ثلاثة أحكام لم تنفذ. كل هذا ولا يشعر حراس العدالة، أي القضاة، بعار المهمة التي أوكلهم بها أهل النظام.
والحال أن انتزاع لبنان من براثن الطبقة السياسية الفاسدة يجب أن يوازيه في الأهمية انتزاع الثروات التي راكمتها المصارف في السنوات الأخيرة. والمهمة الثانية أكثر إلحاحاً من الأولى، ذاك أن أهل المصرف أقل تمسكاً بماء وجوههم من السياسيين. كذبهم أكثر إفصاحاً عن قذارة المهمة التي يؤدونها.
من هنا يجب أن نبدأ مجدداً. يجب أن تشعر المصارف بالتهديد، وهي الآن لا تشعر بذلك. بالأمس تماماً كان مصرف كبير يعيد تجديد الحديقة أمام مقره الرئيسي في الأشرفية. هذا المصرف كغيره من المصارف، يشعر أصحابه بأن الوقت لهم، وأن الحياة تسير على نحو عادي، وأن أرباحه التي ضاعفها في أشهر الاختناق هذه تتيح له تجديد الحديقة، ومضاعفة موازنة الإنفاق الإعلاني لكي يشتري تواطؤ وسائل الإعلام، فتظهر إعلاناته على الشاشات وتدعونا إلى “راحة البال”، وتضاف إلى تصريحات الحاكم والوزير، والنتيجة الوحيدة هي تقليص السحوبات إلى 200 دولار كل نصف شهر.
- صحافي وكاتب لبناني