علي لفتة سعيد
يثير عنوان المجموعة الشعرية «ما لا تقدر عليه الريح «للشاعرة التونسية فاطمة بن محمود التي صدرت عن دار ميارة للنشر عام 2019 عددا من التأويلات والأسئلة. فهو قد يبدو أن ما ستكون عليه القصديات في النصوص الشعرية قوية وثابتة وأيضا ان الريح هنا هو الواقع السياسي وان ما الأرض قوية لا يمكن للريح اقتلاعه.. فــ «ما ولا» النافيتين والناهيتين معا والممتنعتين هما من يحملان جذوة التأويل والأسئلة والمعنى والقصد.. خاصة حين يتم الدخول الى المجموعة من بوابة العنوان الرئيس حين نجد أن الشاعرة قد وضعت إهداءً واستهلالًا يعطي دالًا مهمّا لمدلولٍ ما يتم البحث عنه ويكون البوابة الثانية التي يدخل منها المتلقّي الى النصوص لمعرفة ماهيتها الشعرية وما تحمله من جينات شاعرية توحد فيها الخلاصة الفكرية للشاعرة . الإهداء هنا (إلى كل أحد وإلى لا أحد ) هو جمع عام لحضور وغياب، وهو هنا أي هذا الإهداء مخاطب مسموع ومخاطب غير مرئي تتوجه به الشاعرة الى سحب منطقة العنوان الى منطقتها الغائية عبر استخدام المستويات التدوينية التي انبنت عليها النصوص الشعرية. ثم يأتي ما قالت أنه الاستهلال وهو مقدّمة قصيرة كأنها تغنّي ( لأوّل مرّة/ أرى سجنا/ يسع الفراشات والأطفال/ والاشجار والمدن/ أرى سجنا فسيحا / بحجم الوطن ) ص 6 وبالتالي يكون التوضيح قد حضر في ماهية العنوان وتكون الدلالة قد بيّنت ملامحها مثلما تكون المقاصد في الناهيتين والنافيتين قد أطلّتا في المعنى.
التدوين واللقطة السردية
إن بنية الكتابة وخاصية التدوين في هذه المجموعة تتّخذ من اللقطة السردية المرتبطة بالخاصية الشعرية طريقًا لها.. مثلما تتّخذ من عملية الحصاد الكلّي لما يمكن أن يتحصل عليه المتلقّي من المنطقة التأويلية.. وهي بالتأكيد تعتمد على معنى العنوان في النص الشعري القصير الذي يشبه ضربةً واحدةً متعّددة الصدى.. وهي بهذا تتّخذ من عملية البناء السردي الذي يعطي أكله عبر استخلاص الثيمات التي يمنحها النصّ سواء كان هذا النصّ عبارةً عن ضربةٍ واحدةٍ أو متعدّد الضربات أو الفقرات بالنسبة للنصوص الطويلة.. فهي أي الشاعرة تبني نصّها على المفارقات الحاصلة في مفردات المدوّنة والتي تريدها أن تعبّر عن الوطن والحب والمرأة والحياة بطريقتها الخاصة.. ورغم إن هذه الثيمات هي علاقاتٌ مترابطةٌ مع الشعراء الآخرين بشعريتهم وشاعريتهم وحتى بنصوصهم المنتجة لمجرد النصّ الشعري وهو ما أوضحته بذاتها في نصّها الأول ( بلا جدوى ) حين قالت: ( يبدو ان الشعراء / قد قالوا كل شيء/ لم يبق لي سوى أسد بالكلمات شقوقا/ في قاع الزورق ) ص 9 ولكنها تختلف في الكيفية التي تتناول فيها هذه المواضيع التي لا تريدها تعبيرًا عن الخيبة أو اليأس أو الأشياء السلبية بقدر ما تريد التعبير عن البحث عن مفاتيحٍ تؤّدي الى حلحلة تلك الحياة التي تغادر فيها السجن.
استخدام المستوى الاخباري
فطريقتها البنائية تأخذ من النص القصير جدا والنص الطويلة ماهية البحث عن السؤال الذي يجيز لها أن تقول الجواب الذي تملكه.. الجواب الحائر في رسم ملامحه على شكل نصٍّ، أو السؤال الغائب على شكل تأويلٍ ومعنى وقصد.. ولذلك نرى في النصوص القصيرة عملية استخدام للمستوى الإخباري الذي يمنح المستوى التصويري دلالة وجوده عبر استخدام مفردات سردية تهدف الى إعطاء النصّ جسدًا متكاملًا من وحدة البناء للوصول الى وحدة التأويل وصوت النصّ بعدّة تعرجاتٍ من الصدى.
« في كل مرة/ فكرت أن ارسم الحرية / في شكل حمامة /يتلاشى الرسم تماما/ من الورقة/ ثم انتبهت اني../ رسمت على نفس الصفحة / نافذة مفتوحة. ص 10» أن هذه الصياغة التي نذكرها كمثالٍ على بنية الكتابة التدوينية للمجموعة تعطي المستوى الإخباري أهمية لكي تزاوج ما بين الشعر والشاعرية والمفردة وشاعريتها والسرد وغايته الشعرية. وبالتالي يكون المستوى التصويري هو المقبول في توحيد الرؤى وتبديل الكلمات من كونها نصًّا سرديًا الى نتاجه وأولياته الشعرية.. فهي لم تقل على شكل حمامة كما هو المتوقّع في السرد لكنها وضعت الشاعرية في تبديل حرف الجر ليكون المستوى التأويلي بارزًا ومتداخلا مع المستوى الفلسفي الذي تحفل به المجموعة في غالبية النصوص.
ماهية الشعر في قرارة التدوين
وكذلك نجد الأمر متوفرًا في نصوص أخرى والقدرة على استلهام السرد في البناء الشعري واستخلاص روح المستويين الإخباري والتصويري لإنتاج مستويات أخرى بما فيها المستوى التحليل ( وحدي في المقبرة/ كلب ينبش بقائمتيه الأوليين/ قبرا حديثا/ ويعوي،/ كأن نظرتي الحادة وخزته../ توقف قليلا/ و.. حدّق بي. نص ( وفاء ) ص17. ولهذا نرى إن استهلال النصوص ليس شرطا أن تبدأ بجملةٍ فعليةٍ كما في الكثير من النصوص أو بشرطيات وناهيات ونافيات اللغة، بل هي بحسب الفكرة وما يدلّه عنوان النصّ الذي كثيرًا ما يكون من كلمةٍ واحدةٍ أو كلمتين، وايضا بحسب الغاية من النصّ وجهد التدوين.. فقد تبدأ بجملةٍ أسميةٍ تحمل معها ليس المستوى الإخباري في هذه الحالة فحسب، بل المستوى التحليلي المباشر الذي يأخذ صيغتين من التدوين.. الأولى: ماهية الشعر في قرارة التدوين .. والثانية: قدرة الشعر على استنطاق المفردة وتحويلها من المنطقة النطقية الى المنطقة الشاعرية. إن هذه المجموعة في طرقها التدوينية تحمل دلالة المفردة على بناء الشعر وهي مجموعة تعمل على استدراج البنى الخالصة للفكرة في اكتشاف ما يمكن أن يتم رسمه بطريقةٍ مخالفةٍ عمّا قاله الشعراء قبلها..