عندما نتفق على ما يحمله هذا العنوان من وعي يتنافر وكل أشكال التسويف والحذلقات وفنون التبرير، وغير ذلك من وسائل واساليب مسخ اللغة وبالتالي غايتها الاساس؛ نكون قد وضعنا قدمنا على الجادة التي تفضي بنا الى ما يمكن أن “ينفع الناس ويمكث في الارض”. وفي الموقف من “امة الظلم” يجد الانسان نفسه في مواجهة لا تهدأ، مع آدميته اولاً، ومن ثم مع الآخر الذي تتفاوت مواقفه من هذا الخصم الازلي. على العكس من ذلك نجده عند الامم والمجتمعات والبلدان، التي مسختها الهيمنة الطويلة لقوافل “الظلم” وقيمه وعقائده وترسانة سردياته وسكراب معاييره؛ حيث التيه والعماء الشامل الذي يطيح بكل محاولة أو فرصة، تمنحها الاقدار لما تبقى من حطام البشر كي يسترد شيئا من آدميته. ومع ذلك يبقى ذلك التطلع والشغف من اجل الانتصار لآدميتنا مستنفرا تحت رماد انقاض هزائمنا الطويلة والمريرة، وهذا ما ينبغي ان نمد اليد والعقل والضمير اليه، فمن دونه لا يمكن الحلم باسترداد التوازن المطلوب واعادة وضع المعايير الى حالتها الطبيعية، والتواصل مع ارث وتقاليد سحقت ونكل بها في معاركها ضد سلطان “امة الظلم” وتجليات منظومتها المتعددة الاشكال والواجهات والمستويات.
هذا الوطن القديم (العراق) يعد مثالاً انموذجياً، لما حل بالبشر جراء الهيمنة الطويلة والمتجددة لسلطة جحافل (الظلم) من شتى الرطانات والهلوسات والبيارغ والازياء. لذلك يتعسر على الكثير من سكانه تدارك ما يحمله هذا العنوان، من رسالة تبدو قاطعة وواضحة للوهلة الاولى، غير انها على ارض الواقع وعند ترجمتها الى افعال ومواقف وخطابات، نجدها عندهم ملتبسة وعاجزة عن تفكيك المعسكرين اللدودين عن بعضهما البعض الآخر (الظلم والعدل). تاريخنا القديم منه والحديث مثقل بالامثلة على ذلك، وما نشاهده اليوم من خفة وانعدام للمسؤولية في التعاطي مع كل هذا الطفح من دقلات الانتقال من الضد الى ضده النوعي، ومن دون ادنى خشية من رد فعل او عقاب، يعكس واقع الضياع في مشهد يزداد التباساً وتبادلاً للمواقع والاقنعة والعناوين. من دون الاتفاق على صياغة معايير، تتعاطى مع كل سلالات واجناس الظلم بوصفه “امة واحدة” لا يمكن انتظار احداثا وتطورات مغايرة لما عشناه وتوارثناه من قبل.
لناخذ عينة مما يتم ضخه هذه الايام، وبشكل ممنهج وواسع الى المتلقين ولا سيما منهم شريحة الشبيبة المحتجة والشديدة الغضب على الاوضاع الراهنة في عراق ما بعد “التغيير”. عندما يوحون لهم بانهم قد شكلوا قطيعة وكل ما مر على بلدهم من احداث ومحطات، وانهم وحدهم ومن دون الحاجة لمعرفة ما جرى لاسلافهم من اشتباكات واحداث؛ قادرون على صنع “اسطورتهم” الخاصة والمتفردة بوصفها امتداداً لما اجترحته شرنقات “التمويل الذاتي”. في مثل هذه المكائد وافخاخ الانغلاق والغرور، يكمن مقتل مثل هذه النشاطات الاحتجاجية، حيث يتم الاستفراد بها وسحقها لاحقاً، لانها لم تلتفت الى ما يفترض ان تمثله من مطالب وقيم، وارث يفترض انها تتواصل معه لتتمثل أفضل ما فيه، لا الوقوع في فخ “القطيعة” وشبائك ما حذر منه شكسبير “للشيطان وجه جميل”. ان تجد نفسك تنتصر لقضايا العدل والحرية وكرامة الانسان، يعني نهوضك بمهمة ازلية سبقتك اليها سلالات واجيال، ومن دون وعي ذلك ستقدم خدمة مجانية للمعسكر الآخر كي يفرض هيمنته وشروطه…
جمال جصاني