علوان السلمان
القص القصير، مغامرة ابداعية تجسد الرؤية الفكرية للمنتج(القاص) المتسع الرؤى الذاكراتية بالتقاطه وتسجيله لحظات الواقع الانساني بكل مكوناته، بأفق معرفي مكتظ بالأسئلة المعبرة عن مقاصده النصية، فيطرح اشكاليات متعددة يتداخل فيها الذاتي بالموضوعي، باتكائه على اشارتين حددهما موكارفسكي هما: الاشارة الجمالية والاشارة الايصالية، بصفته نسيج فكري يقوم على التحليل المجتمعي وتصوير أزمة الانسان وتطلعاته. لذا فهو حياة قائمة بذاتها ونتاج انساني يحقق وجوده الحدثي عبر التداعيات التي يوظفها المنتج(القاص) بقصدية مانحة للتفسيرات المتسلطة على ذهنه لمعالجة الواقع بكل ابعاده النفسية والاجتماعية بتسجيله اللحظات المستفزة للذاكرة وتحويلها الى عمل فني وفق تركيبته المعرفية وطريقته الاسلوبية وانتقالاته من المجرد الى العياني برؤية واضحة وبناء فني بعيد عن التكلف باستخدام لغة يومية والفاظ بعيدة عن الضبابية والغموض..
وباستحضار المجموعة القصصية(ليلة المرقد)..التي نسجت عوالمها النصية أنامل منتجها القاص شوقي كريم، واسهمت دار جعفر العصامي في طبعها وتولى صادق الجمل نشرها وانتشارها/2019..كونها نصوص اشتملت على طرائق وثيمات متعددة كشفت عنها ايقوناتها العنوانية(الاحادية التركيب=7 وثتائية التركيب =10 وثلاثية التركيب=3ورباعية التركيب=1)..مضافة الى الايقونة السيميائية الدالة بفونيميها المشكلان جملة اسمية مضافة حذف احد اركانها وقد اعتلت واجهة الغلاف متكئة على جنس المنتَج والمنتِج وكلها توسدت لوحة المرقد التي انتقتها واخرجتها فنيا نهلة نشأت الشمري. أما الواجهة الثانية فقد احتلت قسمها السفلي وعلى الجانب الايمن صورة المنتج وهي تجيب عن سؤال الكتابة بسبابتها(حين نحاول الكتابة عن وطن ملئ بالحكايات والاساطير علينا ان نتوقف كثيرا عند الشكل الذي يتوجب ان نلبسه لهذا السرد ليكون حيا ومؤثرا وهذا ما تطمح اليه وتؤكده مسرودات (ليلة المرقد) المستلة من منابع ليالي الكوانين السومرية..)..
(صاح عمي بعد ان نفث ريح جنونه: كم أنا ضائع في بحر عذاباتي وأحلامي، أحلام كابوسية، قاتلة، تخرج من دوامات الحكايات القديمة.
قالت: ليس هناك غير مرفأ واحد..
قال أبي: أريد خلاصي ومتعتي..
قال عمي بضجر: أريد التخلص من هذه الاسئلة الجوفاء..
قالت: وهل استطعت كسر طوق عزلتك؟
قلت: انه كما ترين طوق لا يمكن الخلاص منه أبدا..
ـ بل نستطيع..
ـ كيف..
استمعت لابي يقول: ما عليك الا ان تقف منتصبا مثل نخلة السيد ابراهيم، وهناك سوف ترى أي ضوء جليل يشع من ارجائه، ضوء سرمدي تأخذك اليه امرأة فارعة الطول، تجعلك تتأمل النجوم وهي تعدو الى حيث يكون القمر مثل جدي صغير، وتحس أن ايامك مرت دونما جدوى،ليل طويل تلوكه الحكايات ونهار مشحون بالرعب،ما الذي يجعل المرقد يشع بكل هذا السنا،من هي… هذا ما حيرني..
سمعت ابي يهمس لعمي وينهضان معا،تبعتهما بخطوات وجلة مترددة..) ص24 ـ ص25..
فالنص يتميز ببعده الحكائي واتسامه بسمات شكلية ودلالية تكشف عن اختزالها النوعي للحياة باعتماد التكثيف والايجاز الكاشف عن البعد الروحي عبر الفاظ رامزة تحاكي العصر والبيئة وتعبر عن التناقضات القيمية التي يسبح على ايقاعها الوجود الانساني، فضلا عن انه يوحي باغتراب انساني وجدب مكاني تكشف عنه مشهدية ناتجة من تقنية الاختزال والايجاز بتوظيف مهارات فنية واخيلة خصبة في التراكيب البنائية التي تعتمد آلية الاقتصاد الجملي بلغة ايحائية تؤطره واحداثه وشخوصه، لذا فالمنتج(القاص) يسعى الى احداث اثر بتفاعله وذات المستهلك(المتلقي)، كونه يطابق الحضور اليومي المرتسم بملامح الشخصية وعوالمها الداخلية ومحيطها الخارجي.
(تلتهم عيناي دوائر الاشياء، أدفن رأسي في صدرها وأبكي مثل طفل،نحن في الجنوب ـ نحب حد الوله لكننا لا نكره ابدا ـ
هناك عند الجرف قال أبي: أية حياة اختر؟
انتهى الحب،انتهت الحياة..لماذا؟
لقد تقرر المصير آه،لو تدري لِمَ تحاول الافلام الخاوية اثارة الغرائز، من منا لا يعرف ان سر الرجولة تكمن في حب امرأة، حب لا تهزه مخاوف اجتماعية.
كان علينا ان نختار بين حياة يرسمها هو او موت بين ركام أفكاره،قاطعني صوتها:جميل يحمل عطرا فواحا،انتشر أريجه في أرجاء المكان..
ـ الموت خير من حياة فاشلة.
ـ علينا ان نتمرد، لكن الخوف عشعش في عقولنا..
همست سهام: الخوف هو الذي يشدنا اليه..
ـ لا
ـ أبعدك عني فأطعت،قالت بصوت نساء الجنوب..
ـ لا وقت للحساب،جئنا نودعه.. ) 85 ـ 86
فالرؤية السردية عند القاص مقترنة بمنطق جمالي من خلال المشهد والارتقاء به بلغة ايحائية جاذبة، متألقة ومنطق الحياة وحركتها التي شكلت احد معطيات المستوى الحسي للنص، كونه يوظف الاشياء بطريقة موحية اسهمت في تطوير البناء الدرامي، اضافة الى توظيف الجزئيات للكشف عن دخيلة الشخصية وتطوير الحدث مع التركيز على الجوانب المعتمة التي تعتري الانسان، عبر نص يحمل دلالاته الموحية ويعبر عما يختمر داخل الذات القلقة التي تتصارع والغربة المكانية. فضلا عن ان المنتج(القاص) يعبر عن مضامينه السردية من خلال وعي الشخصية بحكم امتلاكه رؤية للحياة التي تمنح الناحية الفكرية اهمية متفردة ومتزاحمة الافكار والتأويلات التي تكشف عما يدور في دخيلة المنتج السارد، بتوظيفه تقنيات فنية واسلوبية كـ (التنقيط). النص الصامت الذي يستدعي المستهلك لمليء سواداته) و الاستفهام، الذي يبحث عن جواب لتوسيع مديات النص، والتكرار اللفظي الدال على التوكيد والاهتمام، والتذكر والتذكير، اضافة الى تتابع الاحداث بتركيب زمكاني مع تكثيف الاحساس في صور مركبة داخل بنية نصية ترتكز على الوعي مع قوة العاطفة…
*كانت وحدتي تشيد جدران من حديد ازاء وجودي، اجلس لاماً نفسي اليَ.. فتنزاح الكتل رويدا صوبي وتموء روحي مثل قطة جائعة..
*المحنة ان تجد نفسك محاطا بالفراغ، رغم احساسك الذي لا ينتهي ان ثمة ضجيج لا ينقطع، يلاحقك اينما اتجهت، ضجيج يخرب في اعماقك التي كانت تحس تعبا وهي تحافظ على ما تبقى،ابسط ما اخترت من لحظات الود والاسترخاء والحبور..
- المحنة انك وحدك، وحدك تطارد الوجوه التي ما عدت ترغب بإنسانيتها، وجوه شوهاء مليئة بالقروح تشبه جثث الحروب التي عافتها الكلاب منذ زمن طويل..) ص199 ـ ص200..
فالنص بمقطعياته التي تجرنا الى مقولة النفري الصوفي(كلما ضاقت العبارة اتسع المعنى) تضيء خبايا الذات باسترسال سردي متعدد الظلال الرؤيوية وهي تتكئ على التكثيف والاختزال الجملي مع مفارقة اسلوبية واهتمام بمعيارية الشكل لخلق نص يتوخى الايجاز وعمق المعنى وكثافة الايحاء، وهو يستمد تأثيره من خلجات النفس واحلامها السابحة في فضاءات المخيلة بمعانقة الواقع وتحديد موقف منه من اجل خلق مشاهده بتلقائية تحتكم المنطق القائم على التجربة.
لقد كانت (ليلة المرقد) مكتظة بمشاهدها الحياتية المحتضنة لعوالم واقعية ممزوجة بالخيال وهي تركز على الجوانب المعتمة التي تغلف عوالم الانسان وتنعكس على نفسيته، فكانت مرآة تعكس حقيقة الواقع الذي اخترق عوالمه المنتج(السارد) فكشف عن كوامن الذات وما يحيطها.