كم هائل من الهزائم والكوارث والأهوال باغتتنا، بعد أن نجحت عصابات “أوباش الريف وحثالات المدن” من تصفية وسحق خيرة ما انتجته هذه الارض من ملاكات وزعامات سياسية وادارية وعلمية، عندما تم اغتيال “الجمهورية الاولى” ومشروعها الطموح لبناء الامة العراقية ومؤسسات دولتها الفتية المستندة على اساس مكين من التعددية والتنوع الثقافي والقيمي. كوارث مهدت لانتهاكات وسياسات ومغامرات عابرة للحدود الوطنية، وجد العراقيون انفسهم فيها يساقون الى مصائر لم تخطر ببال أشدهم تشاؤماً وسوداوية. بعد سلسلة الحروب والقادسيات وغيرها من “امهات المعارك” والعنتريات الفارغة، وما رافق ذلك من تنازلات هائلة قدموها (افرادا وجماعات) على صعيد الحقوق الاساسية والوعي والمكانة الحضارية بين الامم، التفتت اليهم الأقدار العابرة للمحيطات ربيع العام 2003 لتستأصل لهم ذلك الطاعون الذي عرف بـ “جمهورية الخوف”. لكن ما الذي حدث بعد ذلك..؟ ما حدث له تجليات ومعاني عديدة، لكن أهم ما يمكن الالتفات اليه هو الغائب الاساس (الوعي) بما جرى وعلله. ذلك الوعي المفقود والذي يقف خلف كل هذا التيه، الذي ما زلنا نتخبط وسط عتمته، بالرغم من مرور أكثر من 16 عاماً على ما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية، نمد الجسور منها الى ما هدهده اسلافنا نهاية الخمسينيات من القرن المنصرم.
مشوار آخر لا يقل مرارة وعتمة عما اشرنا اليه، تم هذه المرة عبر سوق الحشود خلف رايات وبيارغ “الهويات القاتلة” وفصائلها وعصاباتها المتحالفة مع كيانات ما قبل الدولة الحديثة (قبائل وطوائف وجماعات شوفينية وعصبيات ومافيات وبنادق ومواهب مأجورة ادمنت الارتزاق..) لنصل الى ما نحن عليه اليوم من فشل وعجز عن النهوض بابسط المسؤوليات تجاه وطننا وما يتربص به من اطماع وتهديدات مصيرية. شبكات القتلة واللصوص والمشعوذين وما يحف بها من حطام القيم والبشر، تلقي بجريرة كل ذلك على عاتق المؤامرات الخارجية وجوقة شياطينها من شتى الوظائف والاحجام، لنجد أنفسنا بمواجهة متاهات أشد عتمة من سابقاتها، بعد أن فقد الملايين من سكان هذا البلد حياتهم وملايين اخرى وطنهم ومحل سكناهم وممتلكاتهم، وغير ذلك من الانتهاكات الفظيعة التي ارتكبت بحق سكانه الاصليين. كل هذا وما زالت مقاليد امور العراقيين بيد نفس السلالات المهووسة بالرسائل الخالدة وما يطفح عن ماكنتها الاعلامية والتعبوية من هلوسات وفزعات جعلت من المرارات والخيبات جزء من فولكلورنا الوطني.
بمثل هذه العدة المعرفية البائسة التي تستوطن جماجم الغالبية العظمى من سكان هذه المضارب المنحوسة، وبمثل هذه الهموم والاهتمامات التي انتهت صلاحيتها منذ زمن بعيد؛ لا يمكننا انتظار غير هذه المصائر المشؤومة والهزائم المتتالية. من دون ولادة الحاجة لـ “تغيير ما بانفسنا” والتخفف من سكراب العقائد والقيم البالية، ووعي الحاجة لـ “معنى جديد” للحياة وحاجاتها وتحدياتها الحديثة؛ لن نفلح بانتاج غير المزيد من هذه الدقلات الهوائية والعنتريات والاستعراضات الفارغة، المتخصصة باعادتنا الى المربع الاول وما قبله، واعادة تدوير بضائعنا المادية والقيمية النافقة. لقد تمكنت قوى التشرذم والتخلف التي تلقفت مقاليد امور عراق ما بعد “التغيير” من كبح وسحق وتجفيف كل ما يمت بصلة لمشاريع تقويض منظومة الركود والتفسخ تلك، لذلك يعجز المتابع للمشهد الراهن من التعرف على أية علامات تشير الى بداية تعافي ونهوض على المدى المنظور، وعلى رأس ذلك أدوات وافكار مثل تلك التحولات المنشودة..
جمال جصاني