يوسف عبود جويعد
من خلال متابعتي لنتاج الروائي صادق الجمل، التي ابتدأت من رواية (سفينة نوح الفضائية) وهي أحداث أخذت ثيماتها وافكارها من الخيال العلمي، وكذلك رواية (نيرفانا) التي تتحدث عن مسيرة الحزب الشيوعي وتجربته النضالية في البلد، و(لا الناهية) التي تنقل لنا أجواء وأماكن وشخوص بغداد الاثرية ولغتها المتفردة، ورواية (ولد تواً) التي تنقل لنا الحياة في ظل الحكم القمعي أبان حكم الطاغية، ورواية (تراتيل لموت حر) التي تنقل لنا الحقبة المظلمة في حياة هذا الشعب عندما حلت على هذه الارض خفافيش الظلام، وغزوا مدنها الآمنة، تلك هي النقطة السوداء التي ستظل عالقة في تاريخ الوطن، وهي هجوم التتر الاوباش الدواعش، وقد خاض الروائي تجربته، منطلقاً من حسه الوطني المخلص، وإيمانه المطلق بحب الوطن، وكان يضع ثيمات وأفكار وشخوص واماكن وزمان تلك النصوص، بأسلوب وزاوية نظر تعتمد على الخطاب الوطني حساً طاغياً على بقية العناصر والادوات التي تدخل ضمن بناء النص السردي الروائي، وهي متنوعة ومختلفة وغير متشابهة، لأنها تنطلق من البيئة والاحداث التي تناولتها ، وهو راصداً نهماً لمسيرة حركة السرد، دون أن نجد ما يعيق متعة متابعتنا للأحداث، أو تغيير ملامح تلك المسيرة بأعطاءها الصفة الذاتية، التي كثيراً ما تنعكس على بعض النصوص كأسقاطات ذاتية، تشوه معالم النص.
وفي رواية (رتاج عبد الخالق) يقدم لنا الروائي نقلة جديدة في مسيرته وتجربته الابداعية الادبية، كوننا سنتابع أحداث طغى عليها حس الخطاب الانساني، أكثر من غيره من الخطابات التي يتضمنها هذا النص، حيث سنكون مع علاقة زوجية بين الدكتور عبد الخالق وزوجته هيفاء، التي لم تتكلل بالنجاح بسبب فشلهما في تحقيق ما يربوان إليه، بأن ينجبا طفلاً يملأ عليهما حياتهما، وحنين الزوجة الى الأمومة التي تتمناها من أجل أن تشعر بأنوثتها، وهو في بداية مبنى هذا النص يقدم لنا ثيمة العقم وما يلحقه من أضرار في حياة الزوجين، من خلال الانتقالات المتناوبة بين الزوجين التي يعكس من خلالها تأزم حالتهما النفسية ومحاولتهما إيجاد حل لهذه المعضلة، التي هي ظاهرة عامة تحتاج الى اهتمام وكشف الاسباب التي تحول دون عملية الحمل والانجاب:
( أجابها ضاحكاً: كل هذه الأضواء والزينة وحرارة الصالة وبهرجتها
قاطعته محتدة: لا يهمني ما أرى، أنت تعرف ما أعني..
اقترب منها مواسياً وملاطفاً، كل شيء حبيبتي بيد الله، بيد القدر) ص 11
اعتمد الروائي في عملية حركة الأحداث، على السرد المتصل غير المتقطع بفصول، وخال من التنقلات الكبيرة، لأن محيط الأحداث يدور بين الدكتور عبد الخالق وزوجته والاصدقاء نضال والدكتور أحمد، كما تضمن النص تفاصيل عن مشروع الدكتور عبد الخالق من أجل إيجاد علاج لضمور الأعضاء وهشاشة العظام، وهكذا تدور دائرة الأحداث التي تخفي بين ثناياها مفاجآت كثيرة، إذ أن هيفاء لا تستكين ولا تستسلم لأمر العقم، وأنها دائمة التفكير من أجل الخروج من أزمتها لكي تحمل بين أحشائها جنيناً يجعلها تشعر بأمومتها المفقودة.
يعتمد الروائي صادق الجمل في عملية بناء الأحداث أسلوب ضخ الاحداث بشكل إنسيابي متدرجاً في ذلك خطوة بخطوة لدخول عالمه السردي، وهكذا فأن انتقالتنا الثانية من خلال عملية حركة السرد، وهي محاولة هيفاء البحث والتقصي لتعرف كيفية إنجاب طفلاً صناعياً، الذي يأتي من خلال طرف ثالث متبرع لا تربطه بالمرأة رابطة زوجية في هذه الحالة يتم تكوين الجنين داخل رحم الزوجة بغير الاتصال الجنسي الطبيعي، والتي رفضتها صديقتها نضال ، الا أن هيفاء أصرت على الاستمرار في تحقيق هذا الطلب، وبالصدفة البحتة، هناك اتصال هاتفي لم تهتم فيه هيفاء في بادئ الامر، وهذا الاتصال في الساعة العاشرة يومياً، الا أنها تقرر في هذه المرة أن ترد:
( – لم تجبني كيف توصلت الى رقم تلفوني؟
- ألم أقل لك ان الهدهد أتى به الي…
- أرتجيك قل لي كيف؟
- تعبت كثيراً حتى عرفت..
سكت وأكمل : المهم أيتها الهيفاء - وتعرف اسمي!
- وعرفت كل تفاصيلك..) 41
وبعد أن تعرف أن اسمه معين، والتفاصيل التي من خلالها تعرف عليها، تفكر هيفاء ملياً، ثم تقرر أن يكون الطرف الثالث الذي سوف تتم عملية التلقيح من خلاله، وتعرف من خلال الحديث أنه غير متزوج، ومن أجل أن تتأكد بأنه قادر على أن يمنحها الجنين، فأنها تعقد معه صفقة، بأن تدفع تكاليف زواجه، وعندما تتأكد من أن زوجته حملت منه، بعدها ستأخذ تلك النطف المنوية، وهكذا نزداد توغلاً في الاحداث وتتسع خطواتنا للدخول من خلال عملية حبك الاحداث، وتحصل على التلقيح المطلوب من معين، وتظل تتأمل بطنها وهي تنتفخ يوماً بعد يوم، وهكذا يمضي الوقت لتنجب طفلها الموعود:
( وتذكر فرح هيفاء بحملها، عادت لها صورتها وضحكتها التي غابت منذ سنين، كان يخشى عليها من الحمل، فعمرها الآن ليس كعمر بنت في العشرين، حتى صوتها أصبح اكثر رقة وعذوبة، أصبحت مثل شجرة خضراء يانعة تتباهى بالربيع الذي عاد بعد تلك السنين الخريفية, شغل الطفل كل حياتها, أضحت دندنتها تنساب كالموسيقى) ص 79
ثم ننتقل الى المفاجأة المهمة التي أعدت لنقل الأحداث نحو الثيمة والبؤرة الرئيسية لهذا النص، بعد أن تكتشف هيفاء أن مولودها (منغولي) فصدمت لهذا الخبر وثارت وغضبت، وتحولت من امرأة رقيقة عذبة الى إنسانة اخرى خالية من الشفقة والرحمة:
( قالت: وهي تمسح دموعها وتشير بسبابتها في وجهه: - شوف عبد الخالق هذا الطفل الهجين لا اريد أن اراه ابداً
- ماذا تقصدين!؟
- شوفلك طريقة كي تتخلص منه!
حاول أن يهدّئ من روعها وثورتها الا أنها حسمت أمرها، وقالت: - من الآن حتى تجد طريقة خذه في غرفتك
طأ طأ رأسه يفكر في هذا الطفل المسكين ، قال يترجاها هيفاء ايتها الحبيبة انه من رحمك!! ويصيبك الأجر - لا اجر ولا ثواب.. لعلمك لا أريد أحد أن يراه! أحجره في غرفتك حتى نتدبر امر الخلاص منه.
- هيفاء.. اسمعيني
ردت بعنف: لا اريد أن أسمع الا خبر الخلاص منه.) ص93
وهكذا نكون قد تخطينا حالة تأزم الاحداث لنصل الى الذروة بعد أن أحسسنا بالخطاب الإنساني وهو يتسلسل نحو متن النص ليقود الاحداث، حيث الدكتور عبد الخالق يحس بأن ما تقوم به زوجته خال من الانسانية وعليها ان تعود لرشدها، الا أن غضبها يزداد على زوجها ويزداد صراخها حتى أنها تتجرأ وتمد يدها لزوجها لتضربه، وتسوء العلاقة بينهما وتصل طريقاً مسدوداً، فتقرر الهجرة بعد ان تقنع اخاها، فتسافر الى تركيا، ومن هناك تجد لها مهرباً الى اليونان، وهي على قارب يتأرجح بين الامواج تحس بالندم والحنين للبيت والوطن.
وتمضي بنا الاحداث قدماً، وبعد مرور خمس سنوات يتعلم أنس الولد المنغولي، العزف على الآلات الموسيقية، ويثير اهتمام الجميع، بينما تعود هيفاء نادمة لتحضر الحفل الذي يعزف فيه ابنها وعندما يراها يهرع راكضاً اليها فتضمه بين احضانها:
( صار بيتها وزوجها وطفلها شغلها الشاغل، لا تترك عبد الخالق يمر حين يخطو لحمامه إلا وتداعبه، لا تسمح له بتصفيف شعره إلا بيدها واختيار ملابسه وربطة العنق ومنديلها،) ص 124
وبالرغم أن رواية ( رتاج عبد الخالق) للروائي صادق الجمل، متوسطة الحجم إذ يبلغ عدد صفحاتها (124) صفحة من القطع المتوسط، الا أنه ومن خلالها قدم لنا ثيمة واحداث هي من صميم واقع الحياة، كما أنها تشير الى ضرورة الاهتمام الانساني بأبناء التوحد ( المنغوليين) ورعايتهم وجعلهم عناصر فاعلة ويشاركون الناس الحياة.