خافيير سولانا
مدريد ــ مع انتشار حالة من الغضب الشعبي في العديد من الدول حول العالم، لم تحظ المظاهرات الجماهيرية الحاشدة التي اندلعت في العراق، والتي أدت إلى سقوط حكومة البلاد، بالكثير من الاهتمام نسبيا في الغرب. فعلى الرغم من أن العنف الذي ارتكبته قوات الأمن العراقية قد تسبب في مقتل حوالي 500 شخص، إلا أن الاضطرابات في البلاد كانت حاضرة بشكل مستمر على مدار العقود القليلة الماضية لدرجة أن العديد من المراقبين الغربيين أصبحوا غير مبالين بها. وليست هذه هي الحقيقة المزعجة الوحيدة: على عكس فنزويلا أو هونج كونج، فالغضب الشعبي في العراق موجه نحو نظام يرعاه الغرب.
بعد الهزيمة الإقليمية لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، عاد العراق إلى حد ما إلى الوضع الذي كان قائما، بيد أن تأثيرات تمرد التنظيم السلفي لا تزال ظاهرة. حيث مر العراق بحالة من التعافي هي جيدة وسيئة في الوقت ذاته، ويرجع ذلك إلى أن العيوب الصارخة التي تبتلي النظام السياسي في البلاد لم تُصحح بعد. فبدلا من التطلع إلى تطوير شعور أكبر بالتماسك، أسس دستور 2005 – بدعم من الولايات المتحدة – نظاما لتقاسم السلطة يستند إلى معايير عرقية ودينية. وبدلا من احتضان الديمقراطية، غذى الدستور الحالي دوامة الطائفية التي كانت تمزق البلاد بالفعل، والتي أدت في نهاية المطاف إلى ظهور داعش.
سيكون من السذاجة أن نعزو جميع مشاكل العراق إلى الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003 والأخطاء اللا نهائية التي صاحبت ذلك. لكن الاستراتيجية الأميركية لتغيير النظام في العراق كانت بحد ذاتها شديدة السذاجة، حيث تجاهلت حقيقة أن سجل مثل هذه السياسات ذاخر بالفشل.
مهما كان الدافع الرئيسي لإدارة جورج دبليو بوش، فقد أصبح من الواضح أن الولايات المتحدة مهووسة بالتدخل العسكري القسري الرافض للمبادئ الأساسية للدبلوماسية. المشكلة ليست أن العراقيين لم يفهموا سوى لغة القوة، كما أشارت بعض الأصوات التي تخدم مصلحتها الذاتية، لكن الحكومة الأميركية لم تحاول فهم العراقيين بالقدر الكافي من الجدية.
عن بروجكت سنديكيت
أضف إلى ذلك أن فشل العملية الأميركية لم يثبت عدم إمكانية ترسيخ الديمقراطية في العراق. وفوق كل شيء، سيكون من الحكمة تجنب التفسيرات القائمة على الوصم والتي تضرب بجذورها في فكرة الحتمية الثقافية. لكن ما ثبت بشكل مقنع هو أن حرص أميركا على تشكيل النظام العراقي بين عشية وضحاها وفقا لرغباتها كان محض خيال.
الحق أن الاضطراب الحالي في العراق، حيث تتساوى التعددية مع المحسوبية، ليس سوى جزء من مشهد بانورامي اجتماعي سياسي مُقفر في نظر المواطنين. حيث تسير أوجه القصور المؤسسي في العراق جنبا إلى جنب مع شعور واسع النطاق بالإذلال نتيجة إخضاع البلاد لإرادة القوى الأجنبية. وتُعتبر الولايات المتحدة هي المثال الأكثر وضوحا، لكنها ليست المثال الوحيد على الإطلاق. في الواقع، ترتبت على حرب العراق أيضا عواقب جيوستراتيجية مروعة بالنسبة لأميركا، لأنها فتحت الأبواب أمام النفوذ الإيراني.
تؤكد مئات البرقيات الاستخباراتية الإيرانية التي سُربت مؤخرا مدى ضخامة هذا التأثير، الذي ظهر جليا في عملية تعيين رئيس الوزراء العراقي. فوفقا لنظام «المحاصصة الطائفية» المطبق بصورة غير رسمية، يجب أن يشغل منصب رئيس الوزراء شيعي (الطائفة التي تمثل الأغلبية الدينية في العراق)، وهذا ما جعل اختيار رئيس الوزراء مشروطا بموافقة إيران حتى الآن. ومع ذلك، فإن تطور هذه الديناميكية يبرز مفارقة مزدوجة: اكتسبت إيران نفوذها السياسي الحالي في العراق بفعل التجاوزات الأميركية بعد عام 2003؛ لكن إيران فشلت في تعلم الدرس، وتواجه الآن عواقب تماديها في استغلال هذا النفوذ.
مع استمرار الاحتجاجات الجماهيرية، يبعث العراقيون برسالة مفادها «لقد طفح الكيل». حيث لم تهدئ استقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي في الآونة الأخيرة غضب المتظاهرين الذين يدعون إلى إصلاح كامل للنظام السياسي ووضع حد للتدخل الأجنبي. ومما لا يخلو من دلالة أن الشيعة – بموافقة زعيمهم الروحي آية الله العظمى علي السيستاني – هم من قادوا الاحتجاجات، التي شملت وقائع مروعة مثل حرق القنصلية الإيرانية في مدينة النجف الجنوبية. ووفقا لمسح أجري مؤخرا، لا يثق سوى 1٪ فقط من المتظاهرين بإيران، ويثق 7٪ بالولايات المتحدة، بينما يثق 60٪ بالسيستاني.
وعلى الرغم من أن الاحتجاجات لم تنتشر إلى المناطق ذات الأغلبية السنية (بما في ذلك المناطق الكردية)، فقد دعم العديد من أعضاء هذه المجتمعات أصوات الاحتجاج. قد يؤدي هذا إلى ظهور مفارقة أخرى، حيث ينتهي المطاف بنظام تقاسم السلطة الذي غذى الكثير من الانقسام في العراق إلى أن يكون سببا في توحيد مواطني البلاد، وإن كان في معارضتهم له. وعلاوة على ذلك، فإن هذا التحول المثير في الأحداث يدعو إلى التشكيك في النماذج المستندة إلى تأثير الثقافة، والتي سيطرت على الكثير من التحليلات حول وضع العراق وبقية المنطقة.
تُبرز الاحتجاجات في العراق حقيقة مفادها أن الدوافع ذات القدرة الأكبر على إحداث التغيير تنشأ دائما من داخل المجتمعات. والواقع أن أفضل طريقة يمكن أن يتبعها الغرب هي تأييد روح هذه الحركات الشعبية، لكن دون تدخل مفرط. علاوة على ذلك، ينبغي للولايات المتحدة أن تُدرك أخطائها السابقة جيدا، وأن تتوقف بشكل نهائي عن السعي إلى تغيير الأنظمة السياسية، سواء من خلال التدخلات العسكرية أو الضغط الاقتصادي. لن يتغير العراق، ولا إيران، ولا أي دولة أخرى للأفضل بالإكراه. بل في الواقع، لن يتحقق التقدم إلا من خلال مشاريع محلية تهدف إلى توحيد الصف وتعطي غالبية المجتمع أملا حقيقيا.