فجرت التظاهرات الشعبية مشاعر السخط ضد شخصيات وأحزاب حاكمة فاسدة، كانت وما تزال تعاني من الانفصال عن واقع الناس،والانشغال بالصراع على المصالح الحزبية والمناصب التحاصصية،وقد نسي الكثير من السياسيين أن جوهر وظيفتهم خدمة الناس وليس التعالي عليهم أو سرقتهم!
الاحتجاجات الشبابية وصرخات المقهورين هزت كراسي الحاكمين، ولا بد أن تضع هذه الأحداث الصادمة أمام كل ذي بصيرة ثاقبة ورؤية سليمة دروساً،في مفاهيم السياسة والحكم والإدارة،والدعوة إلى تغيير جذري في مفهوم السلطة وروح الدولة،وتقديم نموذج عراقي جديد،ينبع من روح الحضارة الإسلامية والعربية،وهو ما يمكن أن نسميه(دولة الخدمة) العامة التي يصبح فيها الحاكم خادماً للشعب، في مقابل دولة الاستبداد والتسلط والتكبر والطغيان والظلم التي عرفتها أنظمة الحكم السابقة.
إن جوهر الحكم ينبغي ان يكون(خدمة الناس) وتطبيق مبدأ(الرحمة فوق القانون)،ورغم إن إرضاء جميع الناس في بلد متعدد الأعراق والمذاهب مثل العراق،يبدو صعباً،لكن يمكن تجاوز الكثير من الأزمات من خلال تقديم نموذج في الحكم يقوم على التسامح والبساطة ومراعاة حاجات الشعب ورعاية الفقراء وكفالة العاجزين والأرامل والأيتام وإنصاف المظلومين، والتصالح مع التائبين المعترفين بذنوبهم،وتوزيع الثروات بعدالة،وتوفير الخدمات الضرورية وتلبية الحاجات الأساسية وبخاصة العمل والمسكن والمأكل والملبس.
من ناحية الشكل،في النظام السياسي والإداري،ينبغي إجراء مراجعة للقوانين والقرارات الموروثة وإلغاءها أو تعديلها، وفق متطلبات المجتمع وظروفه،وتنسجم مع بنود الدستور،ومباديء حقوق الانسان الأساسية،وفيما يتعلق بالأوصاف والألقاب الرسمية ورث العراق قاموساً هجيناً عجيباً، من التسميات الرسمية والإدارية، المتوارثة من العهد العثماني ثم الانجليزي ثم الملكي ثم الجمهوري ثم الأمريكاني،مثل فخامة الرئيس وسيادة الزعيم وصاحب المعالي،وغيرها من ألقاب التفخيم والتبجيل، التي تنفخ الغرور في شخصية المسؤول وتدعوه إلى الزهو والتكبر على الناس،في حين إن المطلوب أن يشعر الحاكم بالتواضع وخشية الله والخوف من الشعب، وأقترح أن تعاد صياغة تلك التسميات في الهرم الحكومي،وتثبت في قانون يصدر عن مجلس النواب يسمى(قانون الألقاب الرسمية العراقي) يستوحي جوهر الوظيفة،وهو(الخدمة العامة)، وهناك تسمية رسمية متكررة في بعض القوانين النافذة(مثل قانون الخدمة المدنية) وقانون(الخدمة العسكرية) وقانون( الخدمة الجامعية) وغيرها، فكلمة (الخدمة) ليست مسيئة في معناها، ولو طبق مفهوم خدمة الشعب، مثلما هو سائد في الدول المتقدمة، لأصبحت الدولة حاضنة وراعية للجميع، دون تفريق، وزال الشعور بالغبن والتهميش لدى بعض الناس، وعلى وفق هذا الاقتراح يمكن أن يصبح لقب المدير(خادم القسم) ويصبح المدير العام(الخادم العام)،ورئيس الجامعة(خادم الجامعة) ويصبح الوزير(خادم الناس) والنائب(خادم الشعب) ورئيس الوزراء(خادم الدولة) ورئيس الجمهورية(أمين الجمهورية)،وأن تثبت هذه التسميات في الدستور والقوانين،ويحاسب هؤلاء الخدم من قبل الشعب،على سلوكهم وأسلوبهم في التعامل مع الناس، عبر جميع القنوات والوسائل الديمقراطية،وتلغى جميع المظاهر التي تتناقض مع مفهوم الخدمة العامة،ونعود الى البساطة في الشكل والجوهر،بلا مظاهر رسمية تسلطية. ومن ضمن تطبيقات مفهوم الخدمة العامة،ينبغي أن يتفرغ المسؤول(الخادم) في أي منصب، يوماً في الاسبوع لمقابلة الناس في دائرته،بلا حواجز،ويفضل أن يجلس في استعلامات الدائرة،لينصف مظلوماً،ويطمأن ملهوفاً،وأن يقوم في يوم آخر، بالنزول من مكتبه المكيف وسيارته المصفحة إلى ميدان عمل دائرته،فيطلع مباشرة على معاناة الناس ويستمع إلى شكاواهم وهمومهم واحتياجاتهم الحقيقية.
وضمن مفهوم الخدمة العامة، من الضروري مراجعة الإجراءات الروتينية الإدارية في الدوائر الحكومية، من أجل اختصار الوقت والجهد، وتوفير أجواء مريحة للمراجعين،ومحاسبة المقصرين والفاسدين من الموظفين،لكي لا ينسوا أبداً انهم خدم للشعب في دولة عادلة مزدهرة.
د. محمد فلحي