كمال عبد الرحمن
عندما كتب ( ماركيز) مقدمته الشهيرة لرواية ( الجميلات النائمات) لياسوناري كاوا باتا، والتي قال عنها : « تمنيت لو كنت أنا كاتبها»، تساءلت وتساءل معي كثيرون: ( من هو العالمي: الكولومبي أم الياباني؟)، أم أنّ كليهما عالميان؟ وقد يكونان محليين بنكهة عالمية، السؤال هو ( لماذا يكتب روائي عظيم مثل ماركيز مقدمة لرواية يابانية؟!)، يقول ماركيز إن ( الجميلات النائمات) رواية سحرته و تغلغلت في اغوار نفسه عميقا عميقا، وبدون أن نكلف أنفسنا في الدخول في متاهة المفاهيم والمصطلحات التي تُعنى بوعيها أو بلا وعيها بـ ( العالمية) ونظيرتها ( غير الكفؤ) ــ ( المحلية) كما يرى ذلك بعضهم خطأ فادحا، فإن التعالق الابداعي بينهما لا يحدده الا ( سحر النص)،فما هو ( سحر النص) سردا أو شعرا؟، كيف يبتكر النص طقوس أو تقاليد أو مقومات نجاحه وتفوقه؟ ما هي التقانات الفنية التي تؤهله لتأسيس بنية سردية قائمة على التفرد والتميز؟ ربما يكون شيء أو جانب من هذه الإجابة، هو صناعة ما يسمى ب ( النص أو الخطاب السردي الخاص)، وتكمن بعض هذه الخصوصية في ابتكار السارد عرفا أو طقسا أو اسلوبا معينا في الكتابة، فـ ( الواقعية السحرية)، أهلت ( ماركيز) للصعود الى قائمة التميز بابتكار سرده الخاص، ومثل ذلك (جوزيبي لامبيدوزا) مؤلف روايته اليتيمة الرائعة ( الفهد) التي نشرت بعد موته، ووصفت بأنها بادرة أو خطوة فريدة لما يسمى ب( السرد الاستقراطي)، ونجيب محفوظ الروائي المكاني وتفرده في الكتابة عن عالم ( الحتة المصرية) وأمثلة كثيرة أخرى.
الان بإمكاننا أن نقول أن الثغرة بين ( المحلية والعالمية) قد ردمت بشكل ما بطريقة ما، فاذا كان الروس لديهم العالمي ( دستوفسكي) فالعرب لديهم (العالمي نجيب محفوظ) واليابان لديهم ( العالمي ياسو ناري كاوا باتا) وفرنسا (بلزاك) وتركيا (باموق)وهكذا، كما أن رواية ( الخيميائي) فندت وجود حدود فاصلة بين ( المحلي والعالمي)، فالمؤلف برازيلي والبطل اسباني والبطلة ( فاطمة) العربية والمكان ارض العرب الاندلس ومصر.
يكتب نزار عبد الستار مروياته السردية عن طريق تبادل الفضاءات المكانية، و بإسلوب سردي خاص، فعندما يكتب عن أي مكان في الارض، فثمة رائحة وطن تنبعث من هناك، نزار في رائعته ( ترتر) لاقح بين المحلي والعالمي بتعالق نصي فريد ( أي العالمي في خدمة المحلي)، وهو عكس التصورات الذاتية والموضوعية التي تعارف عليها دال النص في تركيباته ( وبخاصة في مرحلة ما بعد الحداثة)، حيث يهمش المركز ويتمركز الهامش، عندما يتحدث عن الأيدولوجيات العالمية في فترة الحرب الكونية، فإنه يتحدث عن ( الاستراتيجي) وحتى ( التكتيكي) في العراق، لا يتحدث عن ( الخارج) لكشف و إضاءة عوالمه السردية المنقلبة على ذاتها، ولكنه يتحدث عن ( الخارج) بغية ( اضاءة الداخل)، ومن هنا تتشكل تدريجيا خطوط الخصوصية السردية في خطابه الروائي، فهو لم يسعَ يوما الى الالتفات الى بهرجات واضواء ومتاهات منهج العالمية، بقدر إيغاله في عشق ( المحلي)، وهو المادة الاساسية لبنيان النص في خطاباته السردية، في (ترتر) ثمة الكثير من الموحيات والاغراءات التي تباهل خدمة ( الخارج) تحت وصية او ادعاء ( بنية الداخل) بناء وطنيا محكما، فاذا عرفنا ان نزارا بإمكانه ان يبتكر رؤيته الخاصة و رؤياه ذات الايدلوجية الذاتية مرورا بأقنعة ( الخارج)، فإنه هنا يسعى نحو التفرد في صناعة ( سرده الخاص) من خلال ( الآخر) أحيانا ومن خلال ( الذات) في أحيان أخرى، وهو هنا أيضا يدعم خطابه السردي الروائي في مشروعه المائز الذي يعضد الرواية في قدرتها على استنطاق التاريخ واعادة كتابته بآن.
لم تعد المسألة مسألة البحث عن جواب لسؤال شائك (ما النص المحلي وما النص العالمي )تؤرق أحدا بعد الان، تشابكت الحدود، وتداخلت الرؤى، وغابت الفوارق، فبإمكان أي نص لأي كاتب في أي شبر من الكرة الارضية ان يحوز على لقب عالمي محلي أو محلي عالمي من خلال ( سحر النص) وقدرته على صناعة الصعق والادهاش، فلو عدنا مثلا الى رواية ( الجميلات النائمات) التي صعقت (ماركيز) وسحرته بصناعة (الإنساني) قبل ( الايروسي)، لوجدناها ليست الرواية الأولى التي تتحدث عن ( دار استراحة جنسية للمسنين)، وعلى عظمة هذه الرواية، الا أنها بشكل أو آخر، ليست إلا ظلا من ظلال روايات أخرى سبقتها، ولعل الأمثلة كثيرة ولكن لسنا بهذا الصدد، وعلى ذكر جدلية ( الأنساني ) و (الايروسي)، فثمة جدلية أخرى تشتغل في الفعل السردي لدى نزار، تتصارع في ثنائية (الواقع) و ( التاريخ)، لا يكتب نزار روايات تاريخية، بل يُفعل التاريخ في صناعة نصوص سردية سيرية، يستطيع من خلالها اعادة الثقة بادعاء ان الرواية قادرة بالفعل على اعادة صياغة التاريخ وكتابته من جديد كما يجب لاكما ينبغي.
والملاحظ ايضا ــ على اتساع معطيات النص النزاري من عمق دلالي سيميائي وبنى سردية ذات تشكيل رصين ومعطيات أخرى ــ الا أن أعماله السردية بصورة عامة شكلت وعيا كتابيا تفرد به الكاتب، وذلك عندما اندمج في بلاغته الوصفية واللسانية مع ما قدمه ( الشكلانيون الروس) في مدرستي (موسكو) و(سانت بطرسبرج) من اهتمام في اللغة حتى احيانا على حساب المعطى السردي، فلغة نزار لغة رصينة، فاللغة بصورة عامة هي رحم تجريبية الخطاب السردي الحديث، ومن خلالها نحاول موقعة وضعية الرواية ، اذ من خلالها تجسدت حداثة شعرية مغايرة لنصوص سردية سابقة.
ان الكاتب المعاصر مطالب بلغة مبتكرة، وهذا ليس معناه ابتكار دلالات لغوية جديدة غير واردة في المعاجم، الا ان الابتكار يكون في التشكيل وهو التركيب المميز للدلالات، و(يعد الخطاب الادبي – خلق لغة من لغة)، أي ان صانع الادب ينطلق من لغة موجودة فيبعث فيها لغة وليدة هي لغة الاثر الفني.
ان مفهوم الخلق في عملية الابداع الانشائي مرتبط بقدرة الانسان على تخليص الكلم من القيود التي يكبلها بها الانسان، ويطهرها مما يتراكم عليها من ضبابية الممارسة، فالإبداع إحياء الكلمة بعد نضوبها، ونزار السارد المائز الرائي له اشتغالات داخل اللغة بالغة الاهمية إذ استطاع أن يشق لنفسه طريقا ابداعية متطورة ولغة هي لغته الخاصة، والمتابع لمدوناته السردية، سيلاحظ العلاقات التي يقيمها بين الفاظه، وهي علاقات تحتاج الى الوقوف عندها، ومتابعتها ورصدها من خلال قراءات نقدية مختلفة ومتعددة.
عندما كتب نزار عبد الستار رائعته (ترتر)، فإنه كان ينظر باتجاه الاحداث بعين واحدة هي (عين الوطن)، ويزاوج بين معطيات (الخارج: الكولنيالية، الحداثوية، الاستعمارية) و(الداخل، الوطن، الهامش الذي تحول الى مركز فيما بعد الكولنيالية)، وبهذا وصل الى (العالمية المزعومة مرتين)، الأولى: عندما عالجها بسرد ارستقراطي/ كولوني، والثانية: عندما فتح عين العالم على (عين الوطن).
ومما يؤسف له ان المحلية الفائقة، قد لا تتفوق على معضلات التضاد التي تعمل بآلية ضاغطة عاكسة للشهرة لا موجهة لها وناشرها الكبير، فمثال: لو أن رواية بمستوى ( ترتر)، لا تقع في دائرة الضوء من خلال قناتي الشهرة ( الجوائز) و(السوشل ميديا)، فإن فرص وصول هذه الرواية الى الشهرة والعالمية، قد تتضاءل وتتراجع الى الاغتيال، فالنصوص المغتالة عديدة، اما ان تختنق في ادراج المكاتب، أو تضيع في أدراج النسيان، وللترجمة ههنا دور خطير ومهم، فنحن نقرأ ل ( الآخر) و(الآخر) لا يقرأ لنا لأنه لم يتمكن من الوصول الى نصوصنا، وهذا هو الاغتيال.
أُبشّرْ بروائي راءٍ مائز ساحر له القدرة على خلق منجزاته السردية، بطريقة لم يعهدها أحد، وحسبهُ هذا..نزار عبد الستار!