عبد المجيد سويلم
في منطقة الإقليم ثمة ما يسترعي الانتباه الخاص. إنه ضمور وتصدع على طريق الانهيار.
الأمر يتعلق بأيديولوجيا التمدد والتوسع ومشاريع تصدير الأزمات وكذلك تغليف المصالح الفئوية بأيديولوجية مفبركة.
لو بدأنا من إيران:
ماذا نجد؟
في مرحلةٍ ما بدت إيران وكأنها تسيطر على العراق ـ والحقيقة أنها كانت وما زالت تسيطر إلى حد ما ـ وكان لها نفوذ قوي في سورية من خلال التحالف الإستراتيجي مع نظام الأسد الأب ثم الابن، وسيطرة غير مباشرة على لبنان من خلال «حزب الله» وقوته ودوره الكبير في السياسة اللبنانية.
في مرحلة خلت، وهي ليست مرحلة بعيدة أو قديمة كانت إيران تعد العدة لاختراق إستراتيجي يوصلها إلى مياه المتوسط عبر الخط الممتد بين طهران ومروراً ببغداد فإلى سورية ولبنان. في تلك المرحلة استطاعت استخدام أيديولوجيا (الدفاع عن الشيعة ومن والاهم) أن تغلف المشروع الفارسي بهذه الأيديولوجية، وحققت نجاحات باهرة جعلت منها قوة إقليمية يحسب حسابها، وتثير مخاوف إسرائيل من جهة، وكذلك المخاوف الكبيرة لما يسمى «المحور السني المعتدل».
وتشكل مقابل هذا «الهلال» الشيعي، خصوصاً بعد أن تجاوز هذا الهلال خط السير نحو المتوسط وانحرف باتجاه اليمن، وبعد أن اتسع نطاق التمدد الإيراني نحو موانئ الحديدية وباب المندب، حلف مقابل قادته الولايات المتحدة واندرجت في إطاره بعض بلدان الخليج، وحاولت الولايات المتحدة بكل قوتها أن تحصل على موافقة «محور الاعتدال السني» على دخول إسرائيل في هذا الحلف، واستثمار هذا «الدخول» الإسرائيلي للوصول إلى تحالف إستراتيجي جديد يتجاوز الحقوق الفلسطينية ويؤدي إلى حالة تطبيع عربية إسرائيلية في مواجهة التمدد الإيراني.
مع اندلاع الهبّات الشعبية الكبيرة في لبنان والعراق وفي إيران نفسها، على الرغم من اختلاف أسبابها إلا أن القاسم المشترك الأكبر هو دخول منطق التمدد والتوسع الإقليمي لإيران في أزمة عميقة.
والهبّات الثلاث ليس لها طابع طائفي، بل هي ردة فعل على الفساد وعلى أيديولوجيا الهيمنة الطائفية، وعلى تغليف المصالح الخاصة، والمصالح الفارسية هنا على وجه الخصوص والتحديد، بغلاف الأيديولوجيا وغلاف الثورة وأغطية مواجهة الشيطان الأكبر والأصغر.
في إيران تصدعت أيديولوجيا التوسع الإيراني، وفي اليمن بدأت مرحلة الضمور، أما في العراق فقد انهارت بالكامل، وفي لبنان الواقع يقول: إنها (أيديولوجيا التوسع والنفوذ) تقع في المساحة الفاصلة بين التصدع والانهيار.
أما في تركيا فالأمر مختلف قليلاً، لكنه لا يخرج عن نفس المسار، ففي عدة سنوات خلت كانت تركيا تعيش فترة ذهبية من التقدم الاقتصادي، وحققت معدلات قياسية في تجاوز الكثير من مظاهر الاختلالات البنيوية في الاقتصاد التركي الهش، واستطاع حزب العدالة والتنمية أن يحوز على ثقة الشعب التركي ودعمه وإسناده بصورة غير مسبوقة.
عندما انطلقت الاحتجاجات الشعبية في سورية للمطالبة بالإصلاح والتغيير، بدأت تركيا «بالتخطيط» لركوب موجة الثورة السورية، ودخلت على خط عسكرتها وتبنت إدخال عشرات آلاف المقاتلين القادمين من منطقة الإقليم والعالم، وبدأت بتسليح الآلاف منهم، وباشرت بالسيطرة على جماعات كثيرة وكبيرة منهم، اعتقاداً منها أن النظام سينهار بسرعة، وأن تركيا هي الوريث «الشرعي» السنّي لسورية في ظل ضعف البلدان العربية الخليجية، وهشاشة الأوضاع في مصر بعد الثورة، وبدأت تركيا مسار استخدام الفصائل المسلحة «السنية» في مشروعها لوراثة «سقوط» الأنظمة العربية ليس فقط في سورية وإنما في مصر وليبيا وتونس مستعينة بالحليف القطري وأمواله، وبالتنسيق الكامل مع الغرب والولايات المتحدة على وجه الخصوص. حتى لو أن هذه الفصائل كانت «داعش» و»النصرة» وأخواتها.
بعد سقوط نظام «الإخوان» في مصر، وبعد أن استطاع النظام السوري الصمود والتماسك جرّاء التدخل الروسي المباشر والكبير، انهارت الخطة التركية ودخلت البلاد في أزمة اقتصادية غير مسبوقة، وبدأ الوضع الداخلي بالتصدع، وتم ابتداع «انقلاب» غولن، وتوالت التصدعات، وتحولت إلى خسارات سياسية كبيرة، ووصلت الأمور إلى انهيارات داخلية في مبنى الحزب وغادرت القيادات التاريخية الحزب عن طريق وراثة الأردوغانية المتداعية.
وهكذا تحولت العثمانية الجديدة التي حاول حزب العدالة والتنمية في تركيا تغليفها بالاعتدال السني وبالدور «الإسلامي» لتركيا في التصدي «لأعداء الدولة الإسلامية» إلى مأزق أيديولوجي كبير، وتقلص الدور التركي وانكمش إلى حدود تسيير دوريات مشتركة تحت إشراف مباشر من الروس عليها.
انهار مشروع التمدد التركي والهيمنة التركية على سورية. تماماً كما انهارت أحلامها في السيطرة على مصر، وهي تعمل اليوم جاهدة عبر قطر وحكومة «السراج» في ليبيا «للتشعلق» بأطراف بعض الأثواب البالية في ليبيا.
حركة «حماس» نفسها وقعت في هذا المطب القاتل.
بدلاً من رؤية الواقع، وبدلاً من التراجع عن مأساة الانقلاب، وبدلاً من السياسات التي نكّلت بشعبنا وأهلنا في القطاع، وبدلاً من الاحتماء بالشرعية الفلسطينية، والقبول بالشراكة الوطنية لمواجهة الأخطار التي تتهددنا جميعاً، تُمعن الحركة في البحث عن صفقات مشبوهة مع الاحتلال، والأميركيين بوساطة العرّاب القطري أساساً، لبناء مستشفيات من وراء الشعب ومن وراء الشرعية والفصائل الوطنية، والعمل على إقامة ميناء عائم، وحتى البحث عن مطار صغير، لتكريس الانفصال ومن أجل تكريس الهيمنة على القطاع.
والغلاف هو نفسه، والغطاء هو نفسه. الأيديولوجية الدينية المسخرة لخدمة الأهداف الخاصة.
الحديث لسنوات وسنوات عن «مقاومة» لن تبقي ولن تذر، وعن «أسلحةٍ» ستدمر إسرائيل وتبقيها تحت طائلة القصف لمدة ستة أشهر متواصلة، للوصول معها في النهاية لإقامة قاعدة عسكرية أميركية إسرائيلية داخل أراضي القطاع، وبإشراف مباشر من «الموساد» و»المارينز». ويبدو أن الحبل على الجرّار.
الأمور أصبحت مفضوحة ومكشوفة، وما زالت شعارات «المقاومة» في أوجها، والتغني بـ «العودة والتحرير» بأعلى الأصوات والجوقات منتشرة في كل مكان.
هذا هو زمن انكشاف الأيديولوجيا، وافتضاح أهدافها وبدايات ومقدمات ضمورها وتصدعها وانهيارها. أما أفول زمن التوسع الإسرائيلي فيحتاج إلى مقال خاص.
- عن جريدة الايام