د. سامر فاضل الأسدي*
تنبثق فكرة البحث من محاولة معرفة أحد الخيوط الناسجة للنقد الثقافي، وهو البُعد الإيديولوجي، بوصفه معتقداً أسهم في تشكّله في الخطاب النقدي الحداثوي العربي. وعلى ذلك فلسنا هنا بصدد الحديث عن النقد الثقافي من حيث المفهوم والمصطلح وإشكاليتهما الوظيفية، على الرغم من قناعتنا بفكرة عدم استقرارهما(المفهوم والمصطلح) في النقد العربي، وقد كُتبت في ذلك مباحث بيّنت الاختلافات ومنطلقات منظّريها. ولذلك تمحور البحث في محاولة معرفة الصلة بين النقد والإيديولوجيا من جهة، ومدى التفاعل بين الدراسات الثقافية والنقد من جهة ثانية، والإيديولوجيا الموظّفة في تشكّل ذلك النقد عند نقاد النقد الثقافي العربي من جهة ثالثة.
التأسيس: إيديولوجية الخطاب النقدي العربي: ليس ثمّة طروحات نقدية لم تقع تحت تأثيرات إيديولوجية معينة، سواء أكانت إيديولوجيات عليا مركزية، أم إيديولوجية شخصية فردية، وهذا حال النقد العربي عموماً، والنقد الثقافي خصوصاً؛ ذلك لأن الخطاب النقدي العربي بتحولاته جميعها(السياقية/ النصية) لم يكن خطاباً بريئاً، بدءاً من تشكّل النقد الإيديولوجي في النقد العربي الحديث ووظائفه النضالية، وصولاً إلى النقد الثقافي الذي يشكّل البُعد الإيديولوجي معتَقداً رئيساً في توجيه خطابه، الأمر الذي يجعل وظيفة الإيديولوجيا في هذا الأخير تختلف عن الاتجاه النقدي الإيديولوجي.
إن دراسة الصلة الرابطة بين النقد والإيديولوجيا مشروع سنّته النظرية الماركسية، إذ تبدو العلاقة بينهما ثرية؛ لأن الإيديولوجيا غذّت الأدب والنقد بمفاهيم استعملت لتحليل النصوص الأدبية وتفسيرها. ومن هنا نعتقد أن الصيغة النقدية لبيان تلك الصلة هي الصيغة التي ترى أن الأدب ممارسة إيديولوجية مشروطة بزمانها، وتتم تطبيقياً في حقل اجتماعي- إيديولوجي محدد، فالأدب لا يظهر من العدم، أو تصنعه شياطين الإلهام، كما يتصوّره النقد المثالي؛ ذلك لأنه مشروط بسياق سوسيو- تاريخي، محدد على مستوى الكتابة بالأدوات والتقنيات والتراث الأدبي الذي يجده الكاتب مُنتجاً ذهنياً أمامه، وعلى مستوى الممارسة بالإيديولوجيات المتنافسة في سياق تاريخي معين. ولهذا يُعدّ الأدب شكلاً إيديولوجياً، والإيديولوجيا هي البنية الفوقية للأنساق الأدبية والفكرية، وهنا يكون الأدب تابعاً لوجود سابق، هو سياق الإيديولوجيات.
ولا يمكن للأدب إلاّ أن يشْغل مكاناً مزدوجاً، فمن حيث هو مطابق للإيديولوجيا، فهو يُعيد إنتاجها، ويعطيها شكلاً، وينتج عن هذا فهم ضيّق موجّه سياسياً للهيمنة على الأدب. ومن حيث هو مختلف عن الإيديولوجيا، فهو يتجاوز(بالمفهوم الهيجلي- يتجاوز ويحافظ على)، المواقف الطبقية للكاتب، ويتجلّى بوصفه انعكاساً عارفاً للواقع(1). وعلى ذلك يكون الأدب عامةً، والنقد خاصةً، شكلاً من أشكال الإيديولوجيا، وخطاباً موجّهاً تبثّه الأخيرة وتحافظ عليه.
وبهذا الفهم تصبح عملية فهم النصوص الأدبية أمراً «يتجاوز تأويل رمزية هذه الأعمال أو العمل على دراسة التاريخ الأدبي لها أو إضافة هوامش إلى الوقائع الاجتماعية التي تدخل في تكوين هذه الأعمال. علينا أولاً أن نفهم العلاقات المعقدة غير المباشرة بين هذه الأعمال والعوالم الإيديولوجية التي تسكنها العلاقات التي لا تظهر فقط في(الثيمات) أو(الانشغالات) بل في الأسلوب والإيقاع والصورة والنوعية والشكل. إننا لا نفهم الإيديولوجية أيضاً ما لم نقبض على الدور الذي تلعبه في المجتمع برمّته»(2). وهذا يعني أن على الناقد أن يضع نفسه في مركز إنتاج العملية الأدبية من جهة، وأن يكشف التصورات التي تقف وراء إنتاجه من جهة ثانية. وبهذا تصبح مهمته عرض النص بصورة لم يعرض النص فيها نفسه، ويُبيّن الشروط والدواعي التي أسهمت في خلقه؛ ذلك لأن النص لا يبوح بأبعاده كلّها، وعملية الكشف عن ذلك تتطلّب «من النقد أن يتخلّص من تاريخه الإيديولوجي القبلي، ويضع نفسه خارج فضاء النص، أي: في الحقل البديل من حقول المعرفة العلمية»(3). وهذا يجعل من العلاقة بين النص والإيديولوجيا علاقة خصبة بالنسبة للسياق التاريخي والحضاري الذي تشكّل فيه النص، فالأدب أكثر الصيغ كشفاً عن الإيديولوجية في النص المقروء. أما الإيديولوجيا فهي التي تغذّي النص بمدلولات سياقية متباينة.
ونتيجة لتلك العلاقة، وبأثر مباشر من الماركسية، أصبحت العلاقة الرابطة أكثر تعقيداً؛ لأن معنى الأدب أصبح قائماً على مفهوم الإنتاج، فالأدب هو إنتاج إيديولوجي يوجد في علاقة مع اللغة بمختلف أشكال استعمالها، فهو إنتاج لا يوجد إلاّ بالعلاقة مع الإيديولوجيا ومع التاريخ، وبذلك تكون الماركسية قد حددت الفضاء الذي يتموضع فيه الأدب، فهو لا يتحرّك إلاّ بالإيديولوجيا؛ لأنه انعكاس للموقع الطبقي الذي أنتج النص، وهذا ما يجعلها تسكت عن خصوصية الممارسة الأدبية، وكأن الأدب ممارسة إيديولوجية خالصة( 4).
وقد عرف العالم العربي هذا الاتجاه في خمسينيات القرن العشرين التي تُعدّ «عقد التوهّج بالنسبة إلى المدرسة الواقعية الاشتراكية»(5).
ويمكن أن نحدد وظائف النقد الإيديولوجي من خلال نقاده الذين اشتغلوا عليه، على وفق الآتي:
أولا: ناهض أصحاب النقد الإيديولوجي فكرة الانعكاس في الأدب، وشدّدوا على أن الأدب وليد رؤية صاحبه الإيديولوجية، وأن للظروف الموضوعية والعوامل الاقتصادية أثراً مباشراً في بلورة هذا النقد، ومن ثمّ في خلقه وفهمه. وهو ما لخّصه (محمد مندور) عندما رأى أن المادية الجدلية ترى أن الأفكار لا تهبط من عالم المُثل، بل هي انعكاس لواقع الحياة المادية(6). ومن هنا رجّح أولوية المضمون في تكوين العمل الأدبي، لهذا طالبَ الأدباء أن يلتزموا بقضايا العصر الراهن، إذ يقول: «والشيء الذي نحرص على أن نختم به حديثنا عن المنهج الإيديولوجي في النقد، هو أنه منهج لا نريد أن يسلب الأدب أو الفنان حريته، وكل ما نرجوه هو أن يستجيب الأديب والفنان لحاجات عصره وقيم مجتمعه بطريقة تلقائية، وهو لا بُدّ مستجيب إذا فهم وضعه الحقيقي في المجتمع، وأدرك مسؤوليته الكاملة، ونهض بالدور القيادي الحر الذي يعزّز مكانة الأديب والفنان، ويرتفع بها إلى مستوى الإيجابية الفعّالة التي يعتبر الاحتفاظ بالقيم الفنية الجمالية أهم وسيلة لتحقيقها، فالأدب أو الفن بغير القيم الجمالية والفنية لا يفقد طابعه المميز فحسب، بل يفقد أيضاً فاعليته»(7)، ولعلّ هذا هو جوهر منطق الواقعية الاشتراكية الملتزمة بإيديولوجيا القضايا الراهنة، التي ترى أن للنقد وظائف عدّة، فهو تفسير وتقييم وتوجيه.
وإلى ذلك ذهب(محمود أمين العالم) عندما رأى أن النقد الماركسي ليس نقداً(آلياً) لقوانين المجتمع، بل هو يستجيب لمتغيرات العصر ويتفاعل معها(8). وقد لازمت هذه النزعة(محمود أمين العالم) في كتابه المشترك مع(عبد العظيم أنيس) في الثقافة المصرية، ذلك أنهما أقاما تصورهما لوظيفة الشعر على أسس النظرية الماركسية، فالأدب نتاج اجتماعي، ومادته الخصبة «الملايين من العمال والفلاحين والموظفين الذين يعملون في المصانع والحقول والمعامل والدواوين»(9). ورسالته الأولى في «الارتباط بحركة الجماهير وتطورها نحو أهدافها السياسية والاجتماعية»(10). وهذا ما حدا بهما إلى النظر للمضمون الشعري على أنه خادم للعامة، ولو كان قليل الإثارة والصورة الجمالية.
ثانيا: ناهض أصحاب هذا النقد، المبدأ السببي، وأحلّوا محلّه مبدأ الجدلية السببية، مقتنعين بأن العلاقة بين الدال والمدلول قائمة على التفاعل والتداخل، فالمضمون يوصف عندهم بأنه «أحداث تقع وتتحقق داخل العمل الأدبي، وهي بدورها أعمال متشابكة متفاعلة يفضي بعضها إلى بعض إفضاءً حياً، وهذه الأحداث تعكس مواقف ووقائع اجتماعية»(11).
هوامش
( 1) يُنظر: النقد والآيديولوجية، تيري إيجلتون: 14-16.
( 2) النقد والإيديولوجية: 18.
( 3) م. ن: 19.
( 4) يُنظر: النقد والنقاد المعاصرون، د. محمد مندور: 183-184.
( 5) المدرسة الواقعية في النقد العربي الحديث، حنا عبود: 97.
( 6) يُنظر: الأدب ومذاهبه، محمد مندور: 91-92.
( 7) النقد والنقاد المعاصرون: 183.
( 8) يُنظر: في الثقافة والثورة، محمود أمين العالم: 54، وثقافتنا بين الأصالة والمعاصرة، جلال العشري: 114، واتجاهات النقاد العرب في قراءة النص الشعري الحديث، سامي عبابنة: 78-80.
( 9) في الثقافة المصرية، محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس: 30.
( 10) م. ن: 26.
( 11) النقد العربي الحديث ومدارس النقد الغربية، د. محمد الناصر العجيمي: 111.
- تدريسي في جامعة بابل/ كلية الآداب