لقمان عبد الرحيم الفيلي
عندما يقيّم المراقب، الأجنبي او الوطني، الواقع السياسي للمشهد العراقي يدرك وللوهلة الأولى أن التعقيد هو من أهم معوقات فهمه للمشهد. إذ لا يستطيع أن يستكشف بسهولة او بوضوح مكامن القوة في منظومة حكمه. فهناك كم هائل من الاحزاب، المتحالفة رسمياً والمتحاربة واقعياً، وتنوع الاثنو- قومي سياسي واجتماعي، وهناك رموز عديدة لقياداتها، من زعيم إلى قائد إلى رئيس..إلخ وهناك اسماء سياسية قديمة تريد دور لها في المستقبل، وان كانت في مرحلة شيخوختها، وهناك أفراد وأسر حاكمة تريد ان تتمدد أكثر، وهناك قبلية وعشائرية مجتمعية تتجذّر وتقابلها حركة مدنية في بداية النشوء، وهناك برجوازية دينية وأخرى قومية تريد ان تعكس هيمنتها على مذهب او دين او قومية معينة.
يا ترى كيف وصلت الحالة العراقية إلى هذا التعقيد المرهق غير المفيد؟ وكم استغرقت للوصول لهذا الانسداد السياسي والذي يتطور سلبياً الى انسداد مجتمعي؟، وهل نستطيع تبسيطه او ضبط إيقاعه لكي نبدأ من الان فصاعداً لنرى النور المرجو في آخر النفق؟ أم علينا ان نلزم انفسنا في فهم التعقيد ونحاول أن نفكك رموزه وأبجدية طلاسمه ولو بعد حين إذ لا خيار آخر لنا. وقبل هذا وذلك نسأل لماذا لا نبسط المعقد ونريح البال قبل إراحة الحال؟، أي لنبسّط المعقد لكي نستطيع ادارة المشكلات بطريقة سلسة ومؤثرة بعيدًا عن التعقيد عسى أن يحل لنا الزمن باقي الأمور.
المنطق يقول إن لم تستطع تبسيط اي منظومة معقدة فعليك أن تحسن ادارتها. إذن علينا أن نؤمن بالتعقيد لكي نسعى بعد ذلك لفهمه والتعامل معه كما هو لا كما يحلو لنا، ولكي لا ننغلق على أنفسنا علينا ان نعترف بأننا نعيش في عالم رقمي فيسبوكي افتراضي ايضاً وليس في عالم يُقَّيم فيها شبكات الإنترنت كحاجة كمالية، او كعالم افتراضي متأمر، نلتزمه لنعرف أين نحن وماذا نريد وكيف نصل معاً كعراقيين إلى بناء بلد اتحادي فدرالي ديموقراطي متنوّع الأديان والطوائف والمعتقدات والمذاهب السياسية كما ينص عليه الدستور.
من جانب آخر، هناك مدرسة لا تريد ان تفهم التعقيد بل تكتفي بتبسيطه متناسيةً بأن مع التعقيد تأتي خصال مهمة وضرورية ومع التبسيط أغلب هذه الخصال تفقد حيويتها وأثرها الإيجابي. فمثلا لا يمكن ان نتحدث أن على العراقي ان لا تكون له إلّا هوية واحدة او ان التنوع الأثنو قومي في البلاد حالة سلبية او ان نحتاج إلى قانون انتخابات بسيط من دون رعاية كيفية ادارة التنوّع في بلدنا وتعدد القوميات والأقليات والتمثيل النسبي فيه او ان الديمقراطية منظومة معقدة ومرهقة وعليه نحتاج فقط إلى حاكم دكتاتور عادل. مقنعين أنفسنا بأنّ ذلك الحاكم العادل او الفقيه المرجع او الزعيم القائد..الخ يستطيع ان يفكّر بدلاً عنا ويقدم لنا حلولاً سحريّة سريعة الفعالية والمردود، وعليه ترى العقول تنتظر ذلك الخطاب التاريخي او خطبة الجمعة التي سوف تحدد كلّ مشكلاتنا وتعطينا الحلول البسيطة الآنيّة الوافية الكافية.
ومع انطلاق ثورات تكنولوجية كبيرة وتزامنها مع زيادة سكانية هائلة وتحديات بيئية خطيرة وصراعات ايديولوجية مختلفة نحتاج ان نعرف أين نحن وأين نريد أن نصل لكي لا نتوه وسط تلاطم العواصف البشرية والمجتمعية المختلفة. نعيش الان في نهاية العقد الثاني من الألفية الثالثة ومع كلّ دقة من دقات الساعة يزداد التعقيد الدولي والوطني والمحلي للمجتمعات.
وبعد أن بيّنا المطلوب وكيفية الوصول له، يا ترى أين نحن من امتلاكنا خصلة إدارة التعقيد لكي نطبّق ما نعرف ونترجم ما نريد على الواقع نحو المرجو ونسير بسفينة التنمية في العراق نحو الأمان والبناء القويم؟، كما قلنا سابقاً فالخصال الحميدة لا تأتي، او تتطور، عموما إلّا بالتركيز والجهد الحثيث، وهذا التطور يحتاج الى ايجاد فضاءات ايجابية وتوجه جماعة وثقافة وعرف تشجع على الإبداع والمراجعة، نحو هدف مشترك وواضح.
وعليه نحتاج أن نتفق أولاً على الأهداف الكبيرة والمهمة التي تواجه العراق ونحدد معالم خارطة الطريق في كيفية الوصول لها. هذه الأهداف من الضروري ان تكون ذكية، اي واضحة ومحددة وممكنة التطبيق وواقعية، وقابلة للقياس والإحالة ومرتبطة بزمن محدد لتحقيقها، وقيادات الدولة والمجتمع ونخبها مسؤولة عن هذه المهمة ولكن كلنا يعترف بوجود أزمة نخبة غير فعّالة وشحة قيادة غير حيوية في واقع السياسة العراقية.
هناك من يرى أنّ الحديث عن التعقيد هو فلسفة النخبة او الانتلجنسيا وان الحلول موجودة وتحتاج فقط إلى قيادات مخضرمة. ففي العلاقات الخارجية مثلًا يطرح اصحاب هذه المدرسة شعار النأي عن النفس وان معالجة سياساتنا الخارجية بسيطة وتحتاج فقط إلى معرفة وإدارة سياسة التوازن بين الجمهورية الإسلامية والولايات المتحدة، او الحديث عن “بس لو” يعملوا ألف او باء فسنرى تحولا إيجابيا بين ليلة وضحاها. هؤلاء هم اصحاب مدرسة الأبيض والأسود في السياسة، مدرسة لا تعترف بوجود ألوان القوس القزح نتيجة ظاهرة طبيعية فيزيائية ناتجة عن انكسار وتحلل ضوء الشمس خلال قطرة ماء المطر، هذا التنوع في الإشعاع الرباني يعطينا سبعة ألوان أخرى غير الأبيض والأسود. فيمكن للمتتبع لمجريات السياسة أن يرى بأنّ سياسة الأبيض والأسود دفنت في متاحف التاريخ. فاليوم هناك العلاقات الثنائية والمتعددة والافتراضية والشخصية ولا يمكن أن نبسط أهداف دولنا ومناهج إدارتنا إلى لونين فقط فذلك غير واقعي ولا يغني من جوع.
ولعل المقلق في المشهد العراقي هو ذلك الكم من القرارات ومسودة التشريعات والأوامر الديوانية من دون رعاية كافية او تحسب دقيق، إنّ هذا الكم يعقد المشهد أكثر او ستكون له ارتدادات سلبية في القريب العاجل. نعم هناك حالة معقدة وتحتـاج إلـى قـرارات جريئـة ولكن ذلك لا يعني قرارات سريعة غير مدروسة تعقد المشهد أكثر.
أخيرا نسأل بعد معرفتنا لضرورة ادارة التعقيد، أين يكمن زر إعادة ضبط الإيقاع العراقي لنخرج من هذه الأزمة او بالأحرى من يوميات الأزمات المزمنة؟ نعم نحتاج اعادة ضبط الإيقاع العراقي لأنّ هناك الان أسس جيدة يمكن البناء عليها. الدستور لائق إلى حد كبير رغم وجود تشويش فوضوي للقوانين عديدة تحتها.
هناك ممارسة مقبولة تتمثل في النقل السلمي للسلطة وهناك مجتمع مدني يقوى يوماً بعد يوم، دون إغفال كيف استطاعت المرجعية الدينية وبعض السياسيين من سحب العراق من العنف المتزايد، والذي وقعنا فيه بعد ٢٠٠٣م، في وسط حكومات في منطقتنا تفتقر إلى هذا، وهو مؤشر إيجابي كبير. ولعل إحدى الطرق للخروج من هذا النوع من الفوضى في البلدان الأخرى كانت بخروج قيادات سياسية تحويلية وليست كلاسيكية (كما عند أغلب قياداتنا). نعم ديغول او مانديلا او غاندي أمثلة يمكن ان نحذو حذوها ونحتاج إلى خلق فضاءات تساعد على بروز من أمثال هؤلاء. العراق بلد غنـي لا في ثرواته وتاريخه فحسب بل في رجالاته ايضاً ولكن نحتاج قبلها ان نلبس نظارة مجتمعية غير التي لبسناها منذ ٢٠٠٣م، هذه النظارات تحتاج ان ترى بوضوح كل ألوان تعقيدات الطيف الشمسي ولا تقيّد نفسها ببساطة الأبيض والأسود فقط.