في الثلاثينيات من القرن المنصرم رفع رواد الحركة الوطنية والديمقراطية العراقية، وعلى رأسهم الزعيم الوطني البارز جعفر ابو التمن شعار “لا انتخابات من دون أحزاب”. شعار يعكس الوعي العميق لذلك الجيل الذي نهض بمهمات بناء العراق الحديث، حيث وجود الاحزاب والتنظيمات السياسية الحديثة يشكل الرافعة الاساس لوجود الدولة الحديثة ومؤسساتها ومدوناتها. لقد واجه ذلك المطلب مقاومة شرسة من قبل القوى التقليدية (الاقطاع وحلفاءه داخل المدن) لتصل العملية السياسية بفعل تلك السياسات المعادية للحداثة والتعددية والحريات، الى طريق مسدود افضى الى ولادة ما يعرف بـ “الجمهورية الاولى” على أنقاض النظام الملكي. العهد الجديد وبالرغم من المشوار المشرف الذي قطعه في مجال تحقيق العدالة الانتقالية، وتقليص حجم الحيف والظلم الاجتماعي والطبقي، وكذلك البرامج الواعدة في مجال التعليم والصحة والخدمات وباقي الحقول الحيوية، الا ان الحكومة الجديدة أخفقت في التصدي للمهمة الاهم؛ الا وهي اتخاذ كل الخطوات اللازمة لنقل الحكم الى المدنيين، عبر اجراء انتخابات حرة ونزيهة تضمن وصول ممثلي الشعب الحقيقيين لمجلس النواب، ومن خلال المشاركة الفاعلة للاحزاب السياسية.
خطأ كلف “الجمهورية الاولى” حياتها وارواح خيرة ما انجبه العراق من ملاكات وقيادات عسكرية ومدنية واجتماعية وعلمية. بعد ذلك تم وعبر عمل شيطاني ممنهج سحق كل ما يمت للتعددية السياسية والنقابية والثقافية بصلة، وقد اختصر شعار “اذا قال فلان.. قال العراق” ذلك الحضيض الذي انحدر اليه وطن كان مترعاً بالآمال والتطلعات الوطنية والحضارية المشروعة. كابوس “جمهورية الخوف” انتهى عبر المشرط الخارجي، الا ان مطلب رواد الوطنية الأوائل (لا انتخابات من دون أحزاب” ما زال بعيد المنال رغم انف قائمة الاحزاب التي اجازتها “المفوضية المستقلة للانتخابات” والتي تجاوزت حاجز الـ 200 حزب وكيان. ان الاحتجاجات الاخيرة بوصفها احدى تجليات المأزق الذي وصلت اليه العملية السياسية لعراق ما بعد “التغيير” قد أكدت بقوة حاجتنا الى وجود احزاب سياسية بالمعنى الحديث لهذا العنوان، والذي تفتقد اليه احزاب السلطة وباقي “الاحزاب” التي اجازتها مفوضية الانتخابات. ان شعار المحتجين باسقاط الاحزاب الحالية لا يتنافر وروح الدستور والمدونات الاممية في هذا المجال، فهي تمثل الضد النوعي للاحزاب التي يحتاجها العراق من اجل رص لحمته الوطنية واللحاق بركب الامم الحرة، “أحزاب” لم ينضح عنها سوى المزيد من التشرذم والعجز في مواجهة تحديات ما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية وبناء مؤسسات الدولة الوطنية الحديثة.
هذا النقص البنيوي (عدم وجود احزاب وتنظيمات وطنية وديمقراطية) واجهته شريحة المتظاهرين الشباب الاكثر ثقافة ووعياً وقربا من الحداثة، بعد أسابيع من انطلاق الاحتجاجات الاخيرة، عندما وجدت نفسها أمام مهمات وتحديات تتطلب وجودها، كي تتمكن احتجاجاتهم وعبر طرق السبل الواقعية والمجربة من تحقيق مطالبها العادلة والمشروعة. الحاجة لولادة احزاب سياسية بالمعنى الذي اشرنا اليه، ستكون اكثر الحاحاً عندما نجد أنفسنا امام دورة جديدة ومغايرة للانتخابات، وهي مهمة ليست باليسيرة لا تتحقق بالارادة الذاتية وحدها او التمنيات، حيث تتطلب العديد من المستلزمات والشروط ومشوار من الجهد والتراكمات كي تتحول هذه الامكانية الى واقع. هذا الوعي هو ما تحتاجه الاجيال الجديدة لا طفح المديح والتبجيل الذي يوهمها بانها قاب قوسين او ادنى من صناعة الثورات والانتفاضات….
جمال جصاني