احد اكثر شعارات الاحتجاجات الأخيرة رواجاً وشهرة هو “اريد وطن” وهي صرخة اطلقها أحد المحتجين الغاضبين، لتتلقفها عدد من وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، لتصل الى ما هي عليه من مكانة وتأثير بين باقي هتافات ولافتات المرحلة الراهنة. العبارة تحمل العديد من المعاني والشحنات العاطفية تتمحور حول فقدان الانسان لاساس وجوده واستقراره (الوطن)، كما تحمل مشروع البحث عن ذلك المفقود وبالتالي تكريس كل قواه من أجل العثور عليه، وهذا ما جسدته الهجرات المليونية للبشر بحثاً عن ذلك الملاذ الذي يوفر لهم الامن والكرامة والاستقرار وسبل العيش الكريم، ولنا كعراقيين حصة كبيرة في مثل تلك الهجرات زمن النظام المباد وبعده، حيث يعيش الملايين منهم في بلدان الشتات والتي تحولت الى ما يعرف بـ “الاوطان البديلة”. لكن وبالرغم من كل تلك الشروط والاحوال اللا انسانية التي تجبر البشر في الهجرة النهائية عن “وطنهم الام” تبقى “الاوطان البديلة” وبالرغم من شروط الحياة الكريمة التي توفرها للكثيرين منهم؛ عاجزة عن سد الفراغ الهائل الذي يتركه في أغوار ذاكرتهم مسقط الرأس والروح.
في مواجهة مثل تلك الحاجات العابرة والجزئية التي تعكسها عبارة “اريد وطن” هناك المطلب الاساس الذي غالباً ما يتم الهروب من مواجهته والذي تختزنه العبارة الاخرى “الوطن يريد..” مطلب أن يرتقي سكان هذا الوطن القديم الى المستويات والمعايير والقيم التي تعيد للعراق مكانته بين البلدان والدول الحرة. العراق لديه كل الشروط والمستلزمات كي ينهض مجدداً، ويضع حداً لكل ما يجعله احد أكثر البلدان طرداً لاهله وسكانه الاصليين. وكل من يعرف شيئا عنه يدرك جيدا ان قوة العراقيين وحيويتهم يكمن في التنوع الهائل والتعددية التي يمتلكونها في شتى المجالات والحقول، وتاريخه القديم والحديث شاهد على ان الموقف من ذلك يحدد مصير ومسار البلد (انحطاطه أو ازدهاره) وعلى هذا الاساس فان الوطن يريد منا المواقف والسياسات والبرامج والتشريعات التي تصون هذا الثراء وهذه التعددية وترفدها بكل ما يعزز ازدهارها في حياة المجتمع والدولة. لقد الحقت التجارب الشمولية ومشاريع “الرسائل الخالدة” المثقلة بكل ما هو معادي للآخر المختلف؛ أفدح الاضرار بحاضر ومستقبل هذا الوطن، والذي يجد نفسه اليوم امام مفترق طرق حاسم في تاريخه الحديث.
الوطن يريد منا الكف عن كل ما له صلة بالهذيانات التي تشيطن الآخر المختلف، وعن كل ما له علاقة بحل مشاكلنا عبر وسائل العنف والعدوانية والاجرام، يريد منا التخفف من تقاليد وثوابت السلب والفرهدة والنهب وكل ما يبررها من عقائد وسرديات الدمار الشامل. نحتاج الى الثقافة التي تمثل الضد النوعي لكل تلك الموروثات القاتلة والمدمرة؛ الى ما ننبذه (افرادا وجماعات) الى ثقافة اللاعنف التي صاغتها ونسجتها خيرة عقول وضمائر البشر. الثقافة التي بمقدورها وحدها فك طلاسم حالتنا العضال وكانتونات “هوياتنا القاتلة” عبر اعادة مد الجسور بين شعوب وملل وقبائل هذه التضاريس المستباحة من موروثات العنف والثارات الصدئة والعدوان. ومن يتصفح معطيات المشهد الراهن لن يحتاج الى ذكاء خارق، كي يكتشف حيوية هذا الارث وخطاباته المشينة والمتكيفة مع كل الاحوال والاوضاع، ارث وثقافة وتقاليد لن تترك لنا وطننا القديم؛ من دون ولادة ثقافة ومنظومة قيم ومعارف تنتصر لما يريده منا الوطن الذي خذلناه طويلاً…
جمال جصاني