ما جرى علينا قبل زوال النظام المباد وبعده، وأكدته بقوة الأحداث الأخيرة (الاحتجاجات ومارافقها من افرازات وتداعيات)؛ يجدد حقيقة فشلنا في صناعة وامتلاك مشروع الدولة الوطنية الحديثة. لقد حذرنا مبكراً من عواقب هذا الخلل البنيوي، ومن لا مسؤولية مواقف جميع الكتل والكيانات المنخرطة في العملية السياسية والمعادية لها؛ تجاه هذا المشروع الوطني والحضاري. لقد انتشلنا المشرط الخارجي من أبشع تجربة توتاليتارية سحقت كل ماهو حيوي وجميل في هذا الوطن، لكن بالرغم من ذلك ما زال العراقيون منقسمون في الموقف من هذه المحطة الأشد ظلما ووحشية في تاريخهم الحديث، وهذا وحده يؤشر الى زيف وكذب كل الادعاءات حول الوطنية والحرص على حاضر ومستقبل هذا البلد المنكوب بأبشع انواع التفرقة والتشرذم. لقد عشنا غير القليل من التجارب المرة وتجرعنا الخيبة والفشل بشكل متكرر، لكن كل ذلك ذهب أدراج الرياح، ولم ننجح حتى هذه اللحظة من الوصول الى قناعات مسؤولة وواعية ومنصفة حول ما يجري وما جرى. وهذا ما نجده بقوة مع من تلقف مقاليد امور البلد بعد “التغيير” حيث السمة الاساس لمنهجهم جميعاً (من الفاو لزاخو) ومن دون استثناء؛ هي اعاقة بعضهم للبعض الآخر، واستعمال كل الوسائل بما فيها التي تهدد أمن ووجود هذا النظام الهش الذي أوجدوه بما يتناسب ومقاساتهم الشاذة، وقد انكشفت المواقف والمآرب الفعلية والمتنافرة وما تم هدره من وقت وامكانات وفرص حول المصالحة الوطنية وغير ذلك من علف اللحمة الوطنية الزائفة وملحقاتها الرثة.
لا يمكن ادعاء امتلاك مشروع للدولة من دون وجود فلسفة الدولة الحديثة، هذا الخلل الذي يحتاج الى الوعي به ومن ثم وضعه على رأس قائمة اهتمامات، من يفترض انهم وجدوا للتعاطي مع مثل هذه الشؤون الحيوية في حياة المجتمعات والدول (العاملون في حقل الثقافة والفكر والشان العام). ولن نكشف سراً عندما نقول ان هذا الملف الحيوي، لم يحظ باهتمام هذه الشريحة والتي أدمنت غالبيتها على تسخير مواهبها لقضايا وهموم بعيدة كل البعد عن مثل هذه الاهتمامات. لذلك ومن دون حصول انعطافة في التعاطي مع هذا الخلل البنيوي، لا يمكن توقع زحزحات واسعة وحقيقية في مجال بناء الدولة الوطنية ومؤسساتها وتشريعاتها وتنتصر لمن لم يوجد بعد؛ أي (المواطن) من دون تمييز على اساس الرطانة والخرقة والهلوسات.
أحد أبرز الهتافات التي رددها المحتجون هي المطالبة باسقاط الاحزاب، هتافات تعكس حجم الغضب والاستياء من ذلك الكم غير الطبيعي من الكيانات و”الاحزاب” التي طفحت على مسرح احداث عراق ما بعد 2003. هتاف يحمل بذرة الوعي بضرورة زوال هذا النوع من الكيانات التي لا تمت بصلة للاحزاب السياسية والتنظيمات التي يتطلبها وجود الدول والمجتمعات الحديثة، وكي يشق طريقه الى هدفه ولا يتحول الى مجرد هتاف يخفت بعد انتهاء الاحتجاجات، يحتاج الى سن تشريعات تتضمن مبادئ ومعايير تقطع الطريق امام حيتان وكتل المشهد الراهن لتدوير بضائعها النافقة مرة اخرى، وتشرع الابواب أمام ولادة احزاب سياسية تعتمد الهوية والوحدة الوطنية اساساً لنشاطها وبرامجها. احزاب متخففة من الثارات والاحقاد والشحنات العقائدية والفئوية الضيقة التي الحقت بهذا الوطن واهله أفدح الكوارث والأهوال. يمكن لذلك ان يساعدنا في شق الطريق بصبر ووعي الى ما أضعناه طويلاً؛ أي دولة الوطن والمواطن..
جمال جصاني