من دون أدنى وجع من عقل أو ضمير يجتر غير القليل من الذين سمموا الحقل الاكثر اهمية في حياة المجتمعات والامم (الثقافة والفكر والاعلام) خطابات التملق والتزلف للشريحة الاصغر سناً للمشاركين في الاحتجاجات الاخيرة، والذين يشكلون الجسم الاساس والانفعالي لها. سلوك هو أقرب ما يكون لطقوس الاعتراف في الكنائس، حيث يتم عبر تلك الممارسة التي لا تتجاوز الدقائق المعدودة شطب سيرة طويلة من الانتهاكات والموبقات. هكذا يتوهمون بانهم قادرون عبر هذا الطفح الواسع من الاعترافات المجانية بخيباتهم وعجزهم وانحرافهم، أمام ما يدبجونه حول ما اجترحته شريحة صغار السن (غير القليل منهم أصغر سناً من أحفادهم) من معجزات وما شكلوه من قطيعة وزحزحة نوعية في تاريخ العراق الحديث؛ من شطب كل تلك السيرة من الخنوع والذل التي رافقتهم الى أرذل العمر. ليس هناك أدنى شك حول معنى ودور مثل هذه النشاطات الوطنية والحضارية (التظاهرات وكل أشكال الاحتجاج السلمي) في تقويم ورسم مصائر المجتمعات والدول، وكل من يعرف شيئا عن تجارب العراقيين مع هذه النشاطات، يعرف جيدا حجم غربتهم عنها طوال أربعة عقود من الهيمنة المطلقة للنظام المباد، بعد أن كانوا روادا لشعوب المنطقة في هذا الميدان. لذلك يمكن تفهم ووعي ما يرافقها حالياً من عيوب وثغرات يمكنها الحاق أبلغ الضرر بها، ان لم يتم التعاطي معها بحكمة ومسؤولية ووعي.
لا يتناطح كبشان على حقيقة ان آخر ما تحتاجه شريحة صغار السن؛ هو خطابات التملق والتمجيد المجانية هذه، فمشاركة الكثير منهم في مثل هذه الاحتجاجات الاكثر عنفا ودموية في تاريخ الاحتجاجات العراقية، يعد جريمة بحق هذه الشريحة التي دفعتها سياسات ومغامرات الانظمة المتتالية الى البؤس والتشرد، لتجد نفسها اليوم المزود الاساس لقوافل ضحايا وجرحى الاصطدامات بين قوات الامن والمحتجين. ان مواقف التملق هذه لا تشكل قطيعة في مسيرة هذه الفئة الهلامية، بل هي في حقيقة الامر تعد امتداداً لسيرة التخاذل والدقلات المثقلة بالانتفاخات الموسمية. وما دفعهم وتحريضهم لشريحة صغار السن ليكونوا رأس رمح الاحتجاجات، الا دليل فاضح على تلك السيرة، التي تجيد فن الزوغان من تحمل أعباء المسؤوليات والتضحيات.
لقد شاهدنا كيف تلقف الكثير منهم، ما اكتشفته حفريات أحد جهابذتهم حول ما يراه يشكل سر قوة هذا الجيل بوصفهم لم يطلعوا على ارث ماركس ولا كتابات عفلق ولا مؤلفات محمد باقر الصدر، ليصلوا الى نتائج يعجز عن الوصول اليها أعظم الاركيولوجيون. وبالرغم من كونها حلقة من هلوسات واسهالات تطلقها مثل هذه المخلوقات عند مفترق الطرق، الا انها تشكل خطرا على تبلور الوعي وروح المسؤولية في مثل هذه المحطات الملتبسة في حياة المجتمعات والدول. كل من ما زال يقبض على شيء من العقل والضمير، يدرك تماما اننا بأمس الحاجة الى ما تستهين وتستخف به هذه المخلوقات (المضيعة صول جعابها)؛ أي حقيقة ما جرى في الماضي القريب والبعيد، كي تتواصل الاجيال الجديدة مع ارث أسلافها المشرق لا اللصوصي والاجرامي. لا أحد يستهين بالخبرة والتجربة الا الاحمق أو من يجر وراءه ماضي، يسعى بكل ما اوتي من قوة الديماغوجية والتهريج لاسدال الستار عليه. لكن في نهاية المطاف “لن يمكث في الارض الا ما ينفع الناس”…
جمال جصاني