نجيب مبارك
أخيراً، افتُتحت أوّل نسخة من بينالي الفنّ المعاصر للرباط، وذلك مساء الثلاثاء 24 أيلول/سبتمبر بمتحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر في قلب العاصمة. واختارت الجهة المنظمة لهذه الدورة التأسيسية، وهي المؤسسة الوطنية للمتاحف، شعاراً فريداً هو: «لحظة قبل العالم». أما بالنسبة للأنشطة الفنية والثقافية، فستتوزع على 16 فضاءات أخرى بما فيها من متاحف ومعارض فنية وقلاع تاريخية ومسارح وحدائق عامة، لغاية إلى 18 كانون الأول/ ديسمبر 2019. لكن اللافت في هذه التظاهرة الفنية الجديدة، التي تسعى إلى تحقيق تفاعل مثمر بين الجمهور والعمل الفني، أنها ستكون مكرّسة بشكل حصريّ للفنانات.
أوّل بينالي للفن المعاصر في الرباط
تاريخياً، لم تعرف الرباط تنظيم بينالي للفنون، على غرار مدن مغربية أخرى مثل مراكش أو الدار البيضاء، باستثناء «بينالي عربي» سنة 1976 لا يمكن اعتباره يستجيب لشروط ومعايير البيناليات العالمية، نظراً لانغلاقه في الطابع «القومي» أو «الإقليمي» الصرف. لهذا السبب،
«البينالي يجمع 64 فنانة ومجموعة فنية من 27 جنسية مختلفة، ومن تخصّصات متعددة»
تطلّب التجهيز لهذا الحدث الفني الكبير أكثر من عام تقريباً، وشاركت في التحضير له عملياً جميع المساحات الفنية في العاصمة. وقد أعلنت انطلاقته بحضور وزير الثقافة المغربي، ومدير معهد العالم العربي بباريس، ووزير الثقافة الإسباني وشخصيات ثقافية أخرى بارزة. وتجمع هذه التظاهرة 64 فنانة ومجموعة فنانين من 27 جنسية مختلفة. وهذا التنوع كان مقصوداً منذ البداية من طرف المندوب العام للمعرض، المعماري الفرنسي-الجزائري عبد القادر دماني، الذي يشغل أيضاً منصب مدير الصندوق الجهوي للفن المعاصر بمنطقة «سونتر-فال دو لوار» في فرنسا. وبحسب المنظمين، فهذه التظاهرة الفنية مفتوحة للجمهور من أجل الاستماع، والحوار، والتأمل، والتفكير، والتربية على القيم النبيلة من قبيل الانفتاح والتسامح والمساواة.
وعموماً، سيتم خلال هذه التظاهرة عرض مجموعة من الأعمال الفنية تحت شعار واحد هو «لحظة قبل العالم»، لأن الهدف من إطلاق هذا البينالي، بحسب المؤسسة الوطنية للمتاحف، هو المساهمة في إعادة تعريف الفن وبراديغماته انطلاقاً من الجنوب، أي من الرباط تحديداً، عن طريق الحوار بين التخصّصات، من الفنون البصرية إلى العمارة، ومن الرقص إلى فنّ الأداء (بيرفورمانس)، بحيث يمكن إثراء النقاش حول ضرورة الإبداع الملحّة، من خلال مساءلة الدوافع، والتمرّدات، واللّحظات المصيريّة الّتي تدفع الفنانين إلى العمل والمشاركة في صنع التاريخ.
يقول مندوب المعرض: «إنّ البيناليات في جميع أنحاء العالم لها هويّات واضحة. فمثلاً، بينالي مدينة ليفربول يتبع دائماً تطوّر هذه المدينة، وبينالي داكار يستكشف مناطق أخرى غير تلك الموجودة في الفنّ الأفريقي المعاصر، لأنّ السنغال هي بوابة أفريقيا. ومن هذا المنطلق، فإنّ الأماكن التي تجري فيها البيناليات هي التي تحدّد خطّها التحريري. لهذا، كان عليّ أن أستكشف هذا الخطّ الخاص بمدينة الرباط في المغرب».
تحقيقًا لهذه الغاية، قرّر عبد القادر دماني أن يكون الاحتفال بالعاصمة المغربية باعتبارها «مدينة ضيفة» في البينالي من خلال إطلاق جولة مصمّمة بحسب ألوان المدينة (الأبيض والأزرق والبني)، وفقًا لما تقوله الأماكن الرمزية مثل: البرج الكبير، قصبة الأوداية، دار الفنون، منتزه الحسن الثاني، وطبعاً متحف محمد السادس للفنن الحديث والمعاصر، الذي يرى مديره، السيد عبد العزيز الإدريسي، أنّ «تنظيم هذا البينالي يمثّل لحظة استثنائية ستمكّن مدينة الرباط من الظفر بمكانة متميّزة، من خلال احتضانها واحداً من بين 150 بينالي حول العالم، علاوة على تعزيز المكانة الاستراتيجية لعاصمة المغرب من أجل الشباب الأفريقي والمتوسطي. كما أنّه بفضل البرمجة الغنية والمتنوّعة، والسفر عبر التاريخ، سيعزّز هذا البينالي البعد الثقافي الدولي للرباط».
دورة مكرّسة للفنانات حصرياً
من بين اللّحظات القوية لهذا البينالي لحظة تكريم كوكب الشرق أمّ كلثوم، حيث تمّ عرض»لحظة قبل العالم»، أول بينالي للفن المعاصر مخصص بكامله للنساء الفنانات»، حفلها الأسطوري الذي احتضنته الرباط سنة 1968 كديباجة للمعرض. وهذه اللحظة تقودنا إلى أهمّ ما يميّز هذه التظاهرة، وهو أنّ الفنانات هنّ نجمات أوّل نسخة من هذا البينالي، وهو اختيار يحسب للمنظمين، باعتبار أنّ القضية المحورية للمساواة في الوقت الراهن، لا سيما المساواة الأنثروبولوجية بين الرجال والنساء، أضحت إشكالاً عالمياً ومعولماً، بما يؤكّد ضرورة تنظيم بينالي مخصّص للنساء بشكل حصريّ، لأنّها ضرورة تنبع أيضاً من اللّامساواة «غير العادلة» التي لطالما كانت موجودة بين الرجال والنساء. لهذا، تمّ التفكير في أن يكون أوّل بينالي للرباط خاصّاً بالنساء الفنانات فقط، وعليه تمّت دعوة العديد من الفنانات من جميع أنحاء العالم، دون الاعتداد بأيّ اعتبارات جغرافية، خاصة من أميركا الشمالية وأميركا الجنوبية وأفريقيا والعالم العربي، للمشاركة في هذه التظاهرة التي تطمح إلى أن تتميّز ليس فقط من خلال تعدّد التخصصات المطلوبة من قبل الفنانات أنفسهن، ولكن أيضاً بالحضور في مختلف الأماكن العامة بالرباط، وذلك حتى تتمكّن ساكنة العاصمة من اكتشاف الأعمال المقترحة عن كثب.
يقول مندوب المعرض: «نحن ندين بكل شيء للنساء في المقام الأوّل، وإذا كان من الضروري تأسيس بينالي جديد، فالأمر يتطلّب شجاعة في القرار، وهو اختيار دعوة الفنانات فقط على أمل أن تظلّ هذه المؤسسة الجديدة وفيّة للحظتها التأسيسيّة. إنّه ليس بينالي موضوعه المرأة فقط، أو دعوة لأنّ يصير الفنّ أنثويا، لأنّ من عادتنا دائماً اختزال المرأة في مجرّد كائن مثير الفضول. لهذا فطموحنا هو شيء آخر، إذ نأمل أن يكون البينالي هو المكان المناسب لاقتراح بديل: ليس لتغيير العالم، أو تعديله وتحريفه، ولكن لاتّخاذ قرار إعادة كتابته من جديد».
في الواقع، يشبه هذا الحدث «أرخبيلاً» من الفعاليات التي تستمرّ على مدار أكثر من شهرين بحيث ترسم خارطة ثقافية للمدينةّ. هكذا، ستجري الفعاليات الرئيسة من البينالي بمتحف محمد السادس للفن المعاصر والحديث، الّذي سيشهد نصب ثلاث مساحات ذات «بطاقات بيضاء». وهي كما يوحي بذلك العنوان، تتمثّل في أن يمنح البينالي كامل الحرية لثلاث فنانات كي يقدّمن معارض جماعية للفنّ المغربي في مجالات الفنون التشكيلية والسينما والأدب. ومن جهة أخرى، لا يسعى البينالي لأن يكون مجرّد ملتقى للفنون التصويرية، بل يعمل أيضاً على اجتذاب كتّاب ومخرجين سينمائيين بشكل دوري لتقديم أعمالهم التي ستكون مفتوحة دوما أمام الجمهور.
أما بخصوص شعار البينالي «لحظة قبل العالم»، فقد تم اختياره، حسب مندوب المعرض، لأنه يعكس «اللّحظة التي سبقت نشأة العالم، حيث لم تكن هناك أشكال ولا ألوان، والفنّانون، بوعي أو بدون وعي، يسافرون دوماً نحو هذه اللّحظة بالذات، من أجل العودة بأشكال وتخيّلات جديدة»، مشيراً إلى أنّ هذا البينالي سيعرف مشاركة الرباط كأوّل «مدينة ضيف»، بحضور مهندسين معماريين وراقصين قدموا من أماكن مختلفة ليشرعوا في سرد جديد للعالم. وباعتبار الرباط عاصمة حديثة ومدينة تاريخية، إذ تندرج ضمن لائحة التراث العالمي لليونسكو منذ سنة 2012، فهي نتاج حوار مثمر بين الماضي العربي الإسلامي والحداثة الغربية، وبذلك تمثّل الهوية التي تعتبر صدى مباشراً للبينالي. في هذا الصدد، قال مهدي قطبي، رئيس المؤسسة الوطنية للمتاحف بالمغرب: «عبر بينالي الرباط، ستتوفّر العاصمة على مختبر إبداعي كبير مكرّس لمختلف الفنون، ويعتبر أداة للتأمّل للفنانين من جميع أنحاء العالم. ومن المؤكد أنّ هذا الحدث سرعان ما سيصبح أحد الأحداث الدولية الكبرى لمشاركته الفاعلة في محاولة إعادة صياغة تاريخ الفن انطلاقاً من الجنوب».
برنامج فني وأدبي متنوع
من خلال إلقاء نظرة على البرنامج، يمكن التأكد من أن هذا البينالي مخصّص فعلاً للفنانات، إذ يجمع 64 فنانة ومجموعة فنية من 27 جنسية مختلفة، ومن تخصّصات متعددة، بحيث تحضره تشكيليات مثل منى حاطوم، مارسيا كور، غادة عامر، زليخة بوعبدالله، أمينة بن بوشتة، كانديس بريتز، وشاعرات: إيتيل عدنان، ونحاتات: سارة فافريو، وكذا سينمائيات ومصوّرات فيديو مثل: تالا حديد، حبيبة جهنين، ومخرجات مسرحيات ومصمّمات رقصات، وفنّانات أداء: بشرى ويزكان، سيفيرين شافريي، بالإضافة إلى مصوّرات: ديبورا بنزاكين، منى جمال سيالة، وكذا فنّانات رقميات: نزيهة مستاوي، ومعماريات: بلاك سكوير، مانثي كولا، زها حديد، ماريا مايو.
أيضاً، بالنسبة للفن التشكيلي، منح البينالي كامل الحرية للفنّان محمد الباز، عبر ما يسمّى
«البينالي مختبر إبداعي كبير مكرّس لمختلف الفنون، ويعتبر أداة للتأمّل للفنانين من جميع أنحاء العالم»
«بطاقة بيضاء»، لدعوة ستة فنانين مغاربة معاصرين: سعيد عفيفي، مبارك بوحشيشي، صفاء الرواس، ماريا كريم، يوسف أوشرا، وإلياس سلفاتي، لإقامة معرض جماعي بمتحف محمد السادس، يحمل عنوان: «الغابة». وبإحالته على رمزية الغابة، يحثّ محمد الباز المتلقّي على التفكير في نشأة الأعمال الفنية ومراحل تكوّن الفعل الإبداعي. أما في مجال السينما، فقد منح البينالي «بطاقة بيضاء» أخرى للمخرجة ومديرة الخزانة السنيمائية المغربية نرجس النجار من أجل تقديم نشاط سينمائي كلّ يوم سبت طوال فترة البينالي، كما سيتمّ أيضاً اقتراح برمجة سينمائية وورشات (ماستر كلاس) وحوارات مع مخرجين سينمائيين لفهم شروط سرد جديد للعالم. تقول نرجس نجار: «السينما توجد في الحياة والحياة توجد في السينما»، مضيفة: «إنّ تلقّي الفيلم هو استعادة جزء من الذات، يكون غالباً مجهولاً عن وعينا أو مرفوض». أما بالنسبة للأدب، فسيلتئم ما يسمّى «برلمان الكاتبات»، وهو نشاط ينظّم بشراكة مع أكاديمية المملكة يوم اختتام البينالي في 18 ديسمبر المقبل، حيث سيتمّ توجيه دعوات لأزيد من 50 أديبة وروائية وشاعرة، تحت إشراف كل من سناء غواتي، الأستاذة بجامعة ابن طفيل، والروائية التونسية فوزية الزواري. أما في مجال الفن الحضري، فستدعم المؤسسة الوطنية للمتاحف استمرارية ممارسة فنون الشارع والفنون الحضرية، من خلال دعوة الفنان «فوتورا»، ومعه مجموعة من الفنانين المغاربة الشباب لإنجاز أعمال فنية وجداريات في منتزه الحسن الثاني.
من جهة أخرى، ستنعقد ندوتان طوال فترة البينالي، الأولى حول «العمل على تعريف الفن» في 27 سبتمبر، مؤطّرة علمياً من طرف نديرة لاغون، والثانية حول «العاطفة التهديمية» يوم 17 ديسمبر، ويؤطرها علمياً المندوب العام للبينالي عبد القادر دماني. أما بخصوص الوساطة الثقافية، فتقترح مسارات الوساطة في البينالي تجربة فريدة تتمحور حول مختلف فضاءاته، عبر تيهان جسدي وخيالي في آن واحد، من خلال الانتقال سيراً من مكان لآخر، بحيث يتبع منطقاً بصرياً بسيطاً، ينكشف في رسم خرائطي ثلاثي اللون: الأبيض والبنّي والأزرق، وهي ألوان الرباط الثلاثة، بينما تقترح البرمجة الثقافية طوال مدّة البينالي الكثير من المسرحيات والحفلات الموسيقية والورشات الفنية.