مقتطفات من مقال للمترجم جوليان هيرفي
ترجمه عن الفرنسية:
ميشرافي عبد الودود
يُعد بيتر هاندكه، روائيا، شاعرا، ناقدا، كاتبا مسرحيا ومخرجا سينمائيا، واحداً من أهم الشخصيات البارزة في الأدب النمساوي اليوم. إنه من أوائل المعجبين ببيكيت و»الرواية الجديدة»، بدا لأول وهلة كمثقف طليعي– متأثر بأحداث مايو 1968 – يمزج بين التقشف والهرمسية وحب الاستفزاز لتحقيق توازن مبتكر. بيد أن مسار تطوره لاحقا بدا كما لو كان تشكيكا في هذه الصورة، لدرجة اتهامه بأنه أصبح «مناصرا لمثالية الرومانسية الحديثة أو الكلاسيكية الجديدة». خلال تمرده على الكليشيهات النمطية المبتذلة التي تفرضها علينا وسائل الإعلام، اضطلع على العكس من ذلك في محاولة جديرة لإعادة اختراع أصالة الوجود الإنساني في عالم «ما بعد الحداثة»؛ هذا الصراع مع الصورة النمطية المروجة في وسائل الإعلام الحديثة يأخذ لدى هاندكه بعدا سياسيا متناميا.
المحطات الثورية
أثار أحد أعماله المسرحية الأولى الذي يحمل عنوانا لافتا «إهانة الجمهور» فضيحة مثيرة أثناء عرضه في فرانكفورت بمسرح إيكسبيرمونتا، طيلة دورة 1966 ببرنستون، إذ فجّر اتحاد الكتاب «47» الذي كان يمارس رقابة شديدة نوعا ما على الآداب الألمانية، ضجة كبيرة بمهاجمته الشرسة للجمالية السردية، أو «الواقعية الجديدة» التي دعا إليها غالبية المشاركين. مع ذلك فإن الجوائز الرسمية لم تتجاهله: قبل حصوله على جائزة نوبل للآداب 2019، حاز على جائزة فوكنر 1973، كما فاز قبل ذلك بجائزة غيرهارت-هاوبمان 1967. عند تسلمه لهذه الجائزة، ألقى بيتر هاندكه – المتمرد على لعبة الأجوبة الأكاديمية المتفق عليها سلفا – خطابا ضد الأدب يعبر فيه عن «حزنه وغضبه، غضبه وحزنه» بشأن تبرئة ضابط شرطة متورط مؤخرا في قتل طالب. بعد هذه البدايات الصاخبة، اتجه أسلوبه إلى مزيد من التجريد والبساطة، دون التخلي عن تحقيقاته والتباساته. منذ 1972، أكد هاندكه على الطابع غير العدواني لعمل «إهانة الجمهور» (الذي توقف بمحض إرادته عن عرضه في ذروة النجاح)، واستعاد شهية رواية القصص، بخلفية السيرة الذاتية غالبا، حيث يعيش الناس العاديون والغامضون معا يوما بيوم شرّ الوجود. منذ ذلك، توطد البعد الأتوبيوغرافي بصورة أكثر انفتاحا؛ في الأعمال المهمة المتأخرة. في رواية «سنتي في ضاحية لا أحد» (1994)، تبدو شخصية كوشينغ قريبة جدا من شخصية الكاتب، بحيث نجد أنفسنا تقريبا بإزاء مذكرات متتالية، تتضمن على غرار «ألف ليلة وليلة» حكايات قصيرة مسرودة مجتمعة تحت عنوان «قصة أصدقائي».
«أعمال هاندكه هي في المقام الأول إدانة للحالة الإنسانية»
بغض النظر عن كل توجه سياسي، فإن أعمال هاندكه هي في المقام الأول إدانة للحالة الإنسانية. تركيزها على الموضوعات التي تبدو متداولة – العزلة، عدم القدرة على التواصل، غياب أي ملاذ متسام، وأيروسية بائسة حيث علاقة الإنسان بجسده تشبه علاقته بآلة غريبة عنه – تمّ تجديدها من خلال كثافة الرؤيا الاستثنائية، كما أنه من خلال اللامبالاة والحياد تنبعث العاطفة وتغمر كل شيء. يتأسس سر الابتذال عند مطلع عبارة أو إجابة أو مخطط. أشخاص غائبون، محاطون بالصمت وعدم فهمهم لأنفسهم – وغالبيتهم من النساء اللاتي يتطرق إلى قضاياهن برقة بالغة– ينتهي بهم المطاف بالكشف عن أنفسهم في إيماءاتهم، حركاتهم، رفضهم، وحتى تهربهم. هاندكه يمارس بإتقان تام فن «التلميحات المهذبة»، الوفية بمبدئها الجمالي الذي ينص على أن أي عمل يجب أن يجعل «الوعي إمكانية جديدة لواقع لا يزال فاقدا للوعي، وإمكانية جديدة للرؤية والحوار والتفكير»، بصفته مترحلا ومستأصَلا («الرسالة الموجزة» تعكس صعوبات زواجه؛ حيث أقام بشافيل بضواحي باريس التي غادرها إلى النمسا قبل العودة إلى هناك من جديد).*
جوليان هيرفي (1953) جرماني تخرج من المدرسة العليا (دفعة 1957)، شغل منصب قارئ فرنسي في جامعة برلين الحرة (1960)، بعد انضمامه إلى سلك التبريز في الأدب الحديث. قام بتدريس الأدب المقارن بكلية الآداب ببواتييه منذ 1964 حتى 2004 كأستاذ من رتبة استثنائية.
أشرف في مكتبة لابلياد الشهيرة على إخراج «مذكرات إرنست يونغر»، كما شارك ضمن فريق السلسلة ذاتها في إخراج الأعمال الكاملة «الروايات، القصص، والحكايات» لدريو لاروشفوكو الذي التزم منذ زمن بإعادة نشر أعماله ورد الاعتبار إليها في عدة مقاربات نقدية.
من أعماله: «شخصيتان ضد التاريخ: دريو لاروشفوكو وإرنست يونغر» (1978)، «مقابلات مع إرنست يونغر» (1986)، «في عواصف القرن: إرنست يونغر» (2004)، إضافة إلى العديد من الترجمات الفلسفية الألمانية والدراسات النقدية التي كرسها للأدب الجرماني.