ما ينضح عن أكثر مواقع التواصل الاجتماعي أهمية وشعبية في العراق (الفيسبوك) يعكس مدى الانحطاط الذي انحدر اليه المجتمع العراقي، ونوع القوى والمصالح والاندفاعات المهيمنة على وسائل الاعلام (التقليدية منها والحديثة). لأسباب تطرقنا الى الكثير منها في مناسبات سابقة، لم يوفق سكان هذا البلد المنكوب من استرداد مكانتهم وحقوقهم المهدورة، بالرغم من مرور أكثر من 16 عاما على ما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية، حيث ما زالت الفزعات والشعارات الغوغائية والديماغوجية سيدة الموقف، على شتى الاصعدة الرسمية منها والشعبية. مشهد تعجز فيه أقوى الميكرسكوبات من العثور على ما يمت بصلة للوعي والحكمة وروح المسؤولية، حيث تسحق الاندفاعات المسعورة للحشود، كل ما تقذفه الاقدار امامها من آراء ومواقف رصينة.
ليس هناك ادنى شك في الخدمات الجليلة التي قدمها الفيسبوك لنا كعراقيين عانينا كثيرا من الحرمان في ممارسة ابسط حقوقنا في مجال التعبير عن الرأي، مما حول هذه الوسيلة المتطورة للتواصل الاجتماعي، الى ما يشبه المسرح المفتوح لاستقبال طيف واسع من الآراء والانفعالات، والتي يغلب على الكثير منها طابع التسرع والضحالة في التعاطي مع الأحداث، التي تتعرض لعمليات توجيه وصياغة لصالح أجندات وغايات محددة سلفاً. ومن يتابع نوع التعاطي هذا، سيكتشف بقليل من الجهد مدى ابتعاد مثل تلك الفزعات والعنتريات الفارغة عن البراءة وحسن النية. ومن جانب آخر يمكن التعرف على حجم اللامسؤولية الذي يطبع القوى والمصالح والمخلوقات التي تقف خلف هذا الوغف الفيسبوكي الذي يتصاعد مع كل حدث، تميل مشيئة هذه الجهات لمنحه حجما ومساحة أكبر مما هو عليه على أرض الواقع، كما جرى مرارا وتكرارا على تضاريس هذا العالم الافتراضي. لقد عرت صخرة الحياة ووقائعها الصلدة الكثير من تلك الفزعات والمواقف بشكل سافر، لكننا لم نجد أي من فرسان تلك الفزعات معتذرا عن حماقاته تلك ولا كلف نفسه بتقديم شيء من الايضاح عن علل كل تلك الحماسة الهوجاء، لا شيء سوى الاختفاء بانتظار اقتناص فرصة اخرى لممارسة هواياتهم الديماغوجية في ركوب أمواج الفيسبوك وفقاعاته المنتفخة عند مفترق الطرق.
القوى والاجندات المهيمنة على هذه الوسيلة المتعددة الوظائف والاستعمالات، برهنت عن براعتها في توظيف واستعمال منصات التواصل الحديثة، كما أجادت في حقب سالفة ادارة دفة اجهزة التعبئة والتجييش التقليدية. مقابل كل ذلك نجد الكتل والجماعات التي تلقفت مقاليد امور ما يفترض انه “عراق اتحادي ديمقراطي” هي أبعد ما تكون عن جوهر وظائف هذا المشروع الفتي الذي هدهد مخيلة أفضل ما أنجبه العراق من عقول وضمائر مستنيرة وحرة. طبقة سياسية هي في سلوكها وممارساتها وعقائدها المنتهية الصلاحية وشراهتها وضيق افقها؛ تمثل الضد النوعي لقيم مرحلة التحول الديمقراطي، والتي تشكل التعددية والحريات والعقلانية والتشريعات الحداثوية ركيزتها الاساس. ان وغف الفيسبوك هذا ومن خلال دغدغته لمشاعر الغضب والتذمر والشكوى، يفتل عنق الاحداث صوب المسارب الخطرة، والتي تفضي في نهاية المطاف لاجهاض اي تراكم طبيعي للخبرة والوعي والمواقف الرصينة مما يجري، وهذا ما نجده واضحاً في الحملات التي تدعو لاسقاط النظام وغير ذلك من الشعارات الصبيانية والبعيدة عن المسؤولية، فالنظام الاتحادي البرلماني الحالي لا يحتاج الى المزيد من وغف الفيسبوك وعنترياته الفارغة، بل الى قليل من الحرص والتأني في سبر علل اساءاتنا وانتهاكاتنا المتواصلة له…
جمال جصاني