ما أن اقترب أستاذ اللغة العربية المتقاعد “أبوالطيب” من أحد محال بيع الملابس الرجالية الواقعة في بداية شارع الرشيد من جهة الباب الشرقي.. حتى تجمّد في مكانه.. وصار “خارج نطاق الخدمة”!
وبينما كان يتأمل المكان بنظراته، سقطت دمعة ساخنة على خده.. من دون إرادته وهو ما أثار انتباه ابنه الشاب الذي كان يرافقه الى الطبيب وبادره متسائلاً: خير بابا.. خوما أكو شي.. يوجعك شي؟ أجابه وهو يمسح دموعه ويؤشر على المحل: قلبي يوجعني.. !
أجابه ابنه: سلامة قلبك بابا.. نرجع للطبيب ؟
رد أبو الطيب: ابني هذا الوجع.. ميكَدر يعالجه الطبيب .. !
اقترب من الجدار الخارجي للمحل وأخذ يتلمسه كأنه يبحث عن بقايا آثار طبعتها السنين على جدرانه.. عقود من الزمن مرت سريعاً وهو يعود بذكرياته الى الوراء.. توقف أبو الطيب في هذه “المحطة” على غير موعد.. بعد أن اشتعل الرأس شيباً.. قال لابنه: “تدري هذا كان أحلى مكان أزوره من كنت بعمرك” !
قال ابنه: “أكيد بابا.. جنت تشتري ملابسك من هذا المحل ولهذا حنيت لأيام زمان”!
تنهد قليلا وقال: “لا.. لا.. ابني لا.. هذا المكان مجان محل ملابس في السابق.. هذا المحل كان يبيع ثقافة الحب والهوى والشباب والموسيقى والأمل والذائقة الجميلة”!
أطلق حسرة عميقة.. وقال: “سابقاً ما أن يقترب المرء من هذا المكان.. حتى ينجذب وينشدّ إليه من دون إرادته.. تستمع الى الأصوات الخالدة.. والموسيقى الأصيلة التي تنساب عبر أجهزة “الكَرامفونات” لتضيف الى المكان نكهة لا مثيل لها.. محمد القبانجي، أم كلثوم، وجميل بشير، ومنيرة الهوزوز، وحضيري أبو عزيز، ومحمد عبد الوهاب، وناظم الغزالي، وداخل حسن، ورضا علي، وصديقة الملاية، وعزيز علي.. وغيرهم !
استند أبو الطيب الى الجدار وقال: “بعد أن كنّا نتناول وجبة دسمة من الفلافل في محل أبو سمير في شارع الخيام وبعد الانتهاء من مشاهدة أحد الأفلام الأجنبية في سينما الخيام.. تقودنا أقدامنا الى هنا كالعادة.. نتسكع ونتجول في أروقة هذا المكان الساحر.. نقلّب “الاسطوانات” و”الأشرطة” التي كانت تملأ المكان، نتأمل الصور على أغلقتها المعلقة على جدران وأروقة الاستديو.. نتوقف عند الجهاز الصوتي الذي يذهب بنا في رحلة مع عالم الأنغام و”السلطنة”، وإذا ما تصادف مرورك في صباحات أيام الجمع والمناسبات الدينية.. فإنك تستمع الى روائع تجويد القرآن بأصوات القراء.. الحافظ مهدي، الحافظ خليل إبراهيم، الحافظ صلاح الدين، عبد الباسط عبد الصمد، خليل الحصري، محمد رفعت، المنشاوي، مصطفى إسماعيل.. وغيرهم !
قال ابنه: صرت أحسدك يا أبي على كل ذلك.. برغم أنني لم أتعرف بعد على اسم هذا المحل ولا صاحبه !
قال أبو الطيب: قبل أن أقول لك عن هذا المكان الذي اعتقد جازماً أن أقرانك من الأجيال الجديدة تجهل الكثير عنه.. هل تعرف يا ولدي أن هذا الموقع يعدّ من العلامات الفارقة في تاريخ بغداد عموماً وشارع الرشيد خصوصاً.. هل تعرف لماذا..؟ لأن هذا الموقع حظي بشرف أول مؤسسة فنية شهدت ولادة التسجيل الصوتي في العراق.. تحمل اسم “جقمقاجي” كانت مرجعاً فنياً مهماً للإذاعة الرسمية ولطلبة معاهد الموسيقى والغناء في بغداد والمحافظات، وكذلك لجميع الهواة وعشاق الفنون، كانت مكتبة غنية تضم آلاف الاسطوانات والأشـرطة للفنانين العراقيين والعرب.
ياولدي: ربما من المفارقات الغريبة في تاريخ الفن والثقافة والتراث العراقي أن يتحول المرحوم الحاج فتحي جقماقجي من مهنة تصليح الأسلحة النارية القديمة الى مهنة جمع وإنتاج الاسطوانات الغنائية والموسيقية!
هنا صاح ابنه: وأين أصبح كل هذا الكنز التراثي يا أبي..؟
جلس أبو الطيب على الأرض منهكاً.. وقال: ياولدي.. اسأل عن ذلك وزارة الثقافة، وزارة السياحة والآثار، أمانة بغداد، شبكة الإعلام العراقي، اليونسكو…. عسى أن تقبض من دبش !!
• ضوء
هناك من لا يميّز.. بين الآلة العسكرية.. والآلة الموسيقية!
عاصم جهاد