يوسف عبود جويعد
في كتابه الصادر عن دار الشؤون الثقافية العامة – وزارة الثقافة لعام 2019 – طبعة اولى- والموسوم بــ (الأطراس الأسطورية في الشعر العربي الحديث) يقدم لنا الباحث والناقد ناجح المعموري، لون مهم وضروري من ألوان التحليلات النقدية التي تحتاج الى قدرة ووعي ومعرفة يجب أن يتسلح بها الناقد أو الباحث قبل الخوض في غمارها، كونها مغامرة خطيرة مجهولة العواقب، إن لم يكن خبرها وعرف دروبها ودخل دهاليزها واخرج اسرارها، الا وهي الحفر والتبئير والبحث عن الاطراس الاسطورية داخل النص الشعري العربي الحديث، هذه المهمة ليست بالأمر اليسير، ولا تتوقف على البحث عنها في متن النص، قبل أن يكون الناقد والباحث قد أطلع على تلك الاساطير وسبر خباياها وعرف رموزها ودلالاتها، وكذلك عليه أن يعرف أنواع الآلهة، وماذا يرمز كل إله، إله الخصب، إله الموت، إله المطر، إله الحب، إله الرعي، والكثير من الآلهة التي استطاع الباحث استكشافها في خبايا النصوص الشعرية، ليس لأنها ظاهرة للعيان في النص الشعري، ولكن علمه المسبق بها، هو الذي يعد بمثابة باب مفتوح يؤهله للدخول في تلك النصوص، والبحث عن الأطراس الاسطورية داخلها، وإستخراج رموزها ودلالاتها، كما يجب على الباحث والناقد في هذا المجال النقدي الصعب، أن يكون قد قرأ وفهم الكتب السماوية التي تعد هي النبع المهم لتلك الاساطير، وكذلك الحكايات التي وصلت إلينا والتي حملت بين ثناياها تلك الأساطير، مثل ملحمة كلكامش وغيرها من الحكايات الاسطورية، والغريب والملفت للإنتباه أن تلك البحوث والتحاليل النقدية تكون فيها مهمة البحث عن تلك الأطراس داخل الص الشعري، سواء كان ذلك بوعي ودراية من قبل الشاعر، دون ان يعي ذلك، كما أشار في ذلك الباحث والناقد ناجح المعموري:
(وحتماً ستكون لتلك الإشارات قوة ضاغطة على فاعلية الذاكرة، وتطوير صلتها القرائية مع النص الشعري، ومحاولة إرجاعه الى الينابيع المبكرة/ والأصول الثقافية الاولى تلك الاصول التي اعاد الشاعر (حبيب الزيودي) صياغتها بوعي او بدون ذلك وقدمها للقراءة باعتبارها مجموعة من الرموز/ والإشارات المنطوية على طاقة كنائية كثيفة/ وموجزة) ص 50
وهكذا يتضح لنا ندرة تلك البحوث والتحاليل النقدية التي تعتمد على نظام علمي كبير، ووعي وإدراك وقدرة على إستخراج تلك الاطراس الاسطورية من داخل النص التي تتطلب جهد فني وقدرة ثقافية واعية من اجل اكتشافها واخراجها من متن النص، وكما أشار الباحث والناقد ناجح المعموري في مقدمته التي إستهل فيها كتابه هذا:
(ولا بد لي من الإشارة الى أن هذه الدراسات انجزت على مراحل متباعدة استغرقت زمناً طويلاً ولم تكن محكومة بوحدة متآزرة وإنما هي مقاربات حاولت الاقتراب من النصوص الشعرية وإضاءة الأطراس الكامنة فيها، وآمل ان تكون محاولتي مساهمة بسيطة تصطف مع محاولات اخرى في النقد العربي الحديث) ص8.
ويُعد إهتمام الناقد والباحث ناجح المعموري بهذا النوع النادر من البحوث والتحليلات النقدية المهمة، والتي هي إضاءة قرائية مهمة للنص الشعري تضفي عليه طابع الاهمية والتبئير داخل متن النص، من الجوانب التي تفرد بها كونها تحتاج لمن يكون مؤهل لخوض غمارها، الذي لا يعني بطبيعة الحال معرفة النظريات النقدية وحدها، بل يجب يتعداها الى ما هو أعمق مع الاحتفاظ واستخدام تلك النظريات والمناهج النقدية الكبيرة، التي سوف نكتشف أنها تراقق عملية البحث عن الاطراس الاسطورية، وفي ذلك يقول الباحث والناقد:
(لا يمكن للقراءة أن تغفل الاسطورة والطقوس والشعائر في الشعر لأنه كان سياجاً لحماية اللغة المجازية/ الأسطورية في فجر الحضارات ودفع النثر بعيداً عن المزاولات الدينية والعقائد كما قال هيغل، ولأن اللغة/ والفن/ والاسطورة معاً في حاضنة واحدة، ولم يكن ممكناً تأشير العزل الواضح بين الجميع، وبعد عصور طويلة، حصل لكل من اللغة والفن والاسطورة خطاب فكري مستقل) ص 95
وفي إنتقالتنا الى متون الدراسات النقدية والبحثية التطبيقية، وكيفية إستكشاف الاطراس الاسطورية داخل النص، نأخذ الدراسة الموسومة (الأسطورة في الشعر الفلسطيني، السمو باللغة إلى عتبات المجرد والجوهري) ومن خلال ذلك سوف نكتشف عملية البحث النقدي عن الاطراس الاسطورية ومهمة استخراجها من النص الشعري:
(ويستثمر الشاعر عمر ابو الهيجا، قصة يوسف المعروفة ويعيد إشتغاله على الرمز الأسطوري، أحد أهم عناصر اسطورته التوراتية، ويضيء الشاعر هذا الرمز الذي ارتحل في النص ليتماهى به الفلسطيني، والذي أعاد الشعر الفلسطيني الجديد صياغته وإنتاجه، وكشف عن مستويات التصاق بين يوسف / الفلسطيني/ وبين إخوته / الأقطار العربية وهذا ما أعلنه إستهلال النص إستعارياً) ص 139
وكم يكون الأمر مدعاة للاهتمام والغبطة، عندما يكتشف الباحث والناقد وفرة كبيرة من تلك الاطراس الاسطورية والعقائدية والشعائرية في متن النص، وهذا ما سوف نلاحظه عندما إختار الباحث والناقد ناجح المعموري نخبة من الشعراء العراقيين، الذين جددوا وحدثوا النص الشعري، ووقف على سمات وصفات ومميزات كل شاعر منهم، ومدى اهتمامهم بتلك الاطراس وضمها في النص، وهنا تكون مهمته اكثر تفاعلاً وشمولاً، لأنه في دراسته الموسومة (الأطراس الأسطورية في التجربة الشعرية الجديدة) يتفاعل ويفحص ويدقق في مجموعة من النصوص الشعرية العراقية التي تناولت تلك الاطراس الاسطورية، وعن هذا يقول الباحث والناقد:
(تميز الشعر العراقي الجديد بتجربة استثمار الأسطورة والإشتغال عليها بصورة مختلفة بين شاعر وآخر، بحيث اتسعت هذه الظاهرة في السنوات الاخيرة مما دفع الأسطورة التي عرفتها حضارات الشرق الادنى. ونظراً لاتساع هذه التجربة وتنوعها تماماً، فإن الدراسة لا تستطيع وبمساحة محدودة، رصد أهم التجارب وأكثرها تفرداً واختلافاً في تحويل الاطراس الاسطورية وسحبها عبر زمنية النص المطلقة الى زمن محيّن وحاضر) ص 146
كما نود أن نشير هنا الى الاستكشافات التي اضيفت الى الاطراس الاسطورية ومنها على سبيل المثال لا الحصر، هو تلك التوليفة بين الصوفي – الاسطوري والتي لايمكن لها ان تظهر ان لم يكن الناقد والباحث على علم مسبق بوجودها وكذلك الحكاية الاسطورية لأهل الكهف ورمزها ودلالتها وما تعني في النص الشعري الحديث، وكذلك إستعانة الباحث والناقد ناجح المعموري برموز علمية وادبية ونقدية عربية وعالمية للإستعانة بهم في ترسيخ معالم تلك التحليلات النقدية المهمة، منهم على سبيل المثال لا الحصر «رولان برت» الذي يقول عن الاسطورة:
(ما يسمح للقارئ بأن يستهلك الاسطورة ببراءة، هو انه لا يراها كنظام دلالي، ولكنه يراها كنظام استقرائي، وحيث يكون هناك تعادل فقط، فإنه التعبير عن هذا الاضطراب أو الخلل بشكل آخر، فأي نظام دلالي هو « نظام قيم» يأخذ مستهلك الاسطورة الآن الدلالة، كنظام من الحقائق، فنقرأ الأسطورة باعتبارها نظاماً للحقيقة، بينما هي ليست الا نظاماً سيميولوجياً) ص 239.
أن الدخول في مضمار التحليلات النقدية والبحثية، في عملية استكشاف الاطراس الاسطورية في النص الشعري الحديث، مهمة تتطلب رؤية ثاقبة ووعي كبير وثقافة عالية، ومعرفة مسبقة عن وجود تلك الاساطير في بطون التاريخ والكتب السماوية والعقائد والشعائر وحتى الحكايات التراثية، وبدونها لا يمكن لأي ناقد او باحث ان يقوم بهذه المهمة الصعبة، والباحث والناقد ناجح المعموري أمضى سنين طويلة من عمره المديد في البحث والاطلاع عليها، ومن ثم الى تحويلها الى واقع تطبيقي داخل النص الشعري الحديث، والذي سيضيئ النص الشعري ويرتفع به ويسمو ليكون إنعطافة جديدة، وأداة جديدة تضاف لى ادوات النقد الحديث. كون هذه المهام النقدية والبحثية يجب ان تتم فيها معايير الموازنة السليمة بين النص والناقد والنقد وهي دراسات نادرة ولها مفكريها وباحثيها الذين تسلحوا بالعلم والمعرفة الرصينة.