مايزال أدب المهجريين العرب يحظى بالاهتمام، ويقرأ بشغف، رغم مرور السنين. ومايزال المولعون بالتجديد، يغترفون منه رغم تبدل الأزمان. يكفي أنه كان البداية المبكرة للرومانسية، والتمرد الأول على القيود، والثورة الأم على القديم. وها هو بعد ما يقرب من القرن لم تتغير النظرة إليه، وبقي حاضراً بوجود ما لا يحصى من النظريات والأفكار والأجناس الأدبية في بلاد العرب!
غير أن هؤلاء المهجريين الذين حلوا على الأمريكتين في العقد الثاني من القرن العشرين، توقفوا مع نهاية الحرب العالمية الثانية. وبقي القليل منهم هناك حتى النهاية. حينما شدوا الرحال إلى المهجر كانوا ما يزالون عرباً، ضاقت بهم أرض أجدادهم وأوذوا فيها، بسبب المعتقد أو السياسة أو الرأي.
حمل هؤلاء معهم قضيتهم، وطفقوا ينشدون الشعر ويؤلفون الكتب، بلغتهم الأم. وينشئون الجمعيات والمنتديات الثقافية الخاصة بهم. كانت هناك الرابطة القلمية في الولايات المتحدة وفيها جبران ونعيمة ونسيب عريضة ورفاقهم، والعصبة الأندلسية في البرازيل وفيها شفيق معلوف وإلياس فرحات والشاعر القروي وآخرون. وصحف عديدة مثل السمير التي أصدرها إيليا أبو ماضي حتى وفاته عام 1957.
حينما انتهت حقبة الآباء، لم يخلفهم من ذريتهم أحد. نسي الأبناء لغة العائلة، لصالح لغة أهل البلاد. كانت هناك محاولات قليلة، في فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا، لأدب مهجري جديد، صنعه المهاجرون وأبناء المستعمرات. لم يعد ثمة من يطلق عليه اسم أدب المهجر لأنه كتب بلغة غير عربية. في النهاية اجتمع الناس على أنه أدب عربي مكتوب بلغة أوربية (إدوارد سعيد وكاتب ياسين والطاهر بن جلون وأمين معلوف وغيرهم).
لكن العرب الذين هاجروا في العقد الأخير من القرن العشرين، والعقدين الأوليين من القرن الحالي، لم يشكلوا ظاهرة ما، ولم ينتجوا شيئاً. باستثناء الأسماء التي رحلت وهي بكامل عدتها. وهي لا تنتمي للمهجر بصلة بل لوطنها الأم سواء عادت إليه أو لم تعد. ومع ذلك لم يقدم هؤلاء ما قدمه أولئك، ولم ينتجوا مثل ما أنتجوا. بل أن بعضهم خلد إلى الدعة، وبعضهم الآخر انشغل بالعيش، وفقد القدرة على العطاء.
كنت أعتقد في تلك السنوات أن هؤلاء المهاجرين – وبضمنهم بضعة ملايين من العراقيين الذين هاجروا في التسعينات – سيدخلون الكثير من الحيوية على المشهد الثقافي في بلاد العرب، بعد أن تتهيأ لهم أسباب الأمن والطمأنينة والعيش الكريم. إلا أن شيئاً من هذا لم يحصل. ولم تربح الشعوب العربية من هجرتهم هذه إلا التمزق والألم وتقطيع الأوصال.
ماذا حدث يا ترى.. لماذا أخفق هؤلاء في حين نجح أولئك.هل بقيت أجواء الرعب حية في نفوس الهاربين من جحيم الاستبداد وحالت دون أدب جديد، أو أشكال تعبيرية أكثر حداثة؟ أو أن عصر العولمة أبدلهم بثقافات كونية أكثر جاذبية وسحراً من ثقافتهم الأم؟ من يدري!
محمد زكي ابراهيم