حديثنا هذا يأتي متأخراً قليلاً وهو حول بيان المجلس الاعلى للفتوى في اقليم كوردستان، والذي دعوا فيه وسائل الاعلام والمهتمين بالشأن الفكري والاجتماعي الى الكف عن التطفل على ما يعدونه من ثوابت الدين والامة أي “حجاب المرأة” ليس هذا وحسب بل هددوا باللجوء الى “المحاكم والقانون لمعاقبة تلك المؤسسات الاعلامية” لأن “اثارة مثل هذه الموضوعات الحساسة تخالف الدستور والقوانين المعمول بها”. يسمونه “التطفل” على “ثوابت الدين والامة” في الوقت الذي لا تعده اعلى هيئة دينية في العالم الاسلامي “الأزهر” فريضة اسلامية بل عرف اجتماعي، ويرى عدد آخر من الفقهاء بانه خاص بزوجات النبي و… وهنا نقع في حيص بيص بين الأزهر وفقهاء الاقليم، كل هذا ويدعوننا الى عدم “التطفل” في الوقت الذي تشكل فيه دعوتهم تطفلاً على أهم خصيصة لدى الانسان؛ أي فضوله المعرفي وعقله النقدي، والذي من خلالهما ارتقت سلالات بني آدم الى هذه الذرى من التشريعات والمناخات والشروط التي انتصرت لآدميته وكرامته وحريته، بعيدا عن عصور الوصاية والتبعية والاذلال. ان عودة سريعة لموضوع ظهور الحجاب وانتشاره في العراق وغيره من البلدان المتجحفلة معه بهموم واهتمامات وثارات؛ تكشف لنا حقيقة ذلك الانتشار وعلله البعيدة عن “ثوابت الدين والامة” فقد ظهر وانتشر نهاية السبعينيات من القرن المنصرم، أي مع بروز الجماعات الاسلاموية (الاستثمار السياسي في الدين وتحوله الى حانوت) وتعاظم شأنه مع ظهور الجمهورية الاسلامية في ايران، وفرض الحجاب على جميع نساء ايران من دون استثناء على اساس الديانة أو الاعتقاد، وما اعقب ذلك من استعراضات للفضيلة والتقوى بين المعسكرات الطائفية المتناحرة..
لم يعد سرا أمر العلاقة بين السلطات الاستبدادية وغير القليل من المؤسسات الدينية، فالتخادم بينهما اصبح مكشوفا ومعروفا لكل ذي عقل ووعي وحرص وضمير، واثارة مثل هذه القضايا (الحجاب) يخفي وراءه مقاصد وغايات هدفها الاساس حربهم المشتركة ضد قوى الحرية والحداثة والعقلانية والحقوق المشروعة للبشر من دون تمييز على اساس الجنس والرطانة والهلوسات. لسنا بصدد البرهنة على صحة ما توصلت اليه حفريات الازهر وغيره من الفقهاء، لان موضوع الحجاب بشكله ووظيفته الاسلاموية الحالية، والتي لا تمت بصلة لما كان عليه الحال زمن النبوة ومرحلة التأسيس، أصبحت بفضل وسائل البحث والتنقيب الحديثة واضحة وبينة، وهذا ما دفع الازهر وغير القليل من علماء الدين للنأي بأنفسهم من مثل هذه البضائع الاسلاموية النافقة، والتي أكدت افلاسها التام في الميادين التي “تنفع الناس”.
تتحدثون عن “التطفل” في الوقت الذي لم يبق تفصيل صغير في حياة عيال الله الشخصية والاجتماعية والسياسية لم تصله مجسات وشبكات اخطبوطكم الخرافي. ان التفات المثقف والفنان والاعلامي والمؤسسات المعنية بالفكر والمعرفة والمعلومة، الى هذه الملفات والاهتمامات، هو جزء اساس وأصيل من مسؤولياته ووظائفه، والفضول المعرفي الذي تطلقون عليه مفردة “التطفل” هو محور ودافع هذا النشاط العضوي في حياة المجتمعات والدول، فلولا ذلك النشاط الكاسح والدؤوب لاحرار ومفكري العالم الحر، لما تمكنت تلك المجتمعات من وضع محاكم التفتيش في متحف المنقرضات لتشرع الابواب أمام ولادة بلدان ومؤسسات وتشريعات واسلوب حياة؛ يتدافع بنات وابناء جلدتكم زرافات ووحدانا للوصول اليها هرباً من فسطاط تلقفته قوافل المحتسبين الجدد، والذي مثلت داعش سنامه الاعلى في تطبيق حدود مملكة الله المزعومة…
جمال جصاني