يوسف عبود جويعد
قد يكون الكتاب الذي هو بحجم كتاب الجيب، والذي ضم اربع روايات قصيرة جداً ( المقايضة – أرض الزعفران- القداحة الحمراء – المجهول) للروائي حميد الحريزي، مدخلاً للوقوف على هذا النمط المشتق من جنس الرواية، والتي هي بطبيعة الحال تنقسم الى ثلاث أقسام (الرواية الطويلة – والرواية لقصيرة – والرواية القصيرة جداً) شأنها شأن جنس القصة وهي كذلك تنقسم الى ثلاثة أقسام، وعودة الرواية القصيرة جداً الى الساحة الادبية وظهورها، وزجها ضمن الأجناس الادبية الاخرى، حالة صحية تساهم في احياءها وتفعليها، لكي تكون من العناصر الادبية التي يمكن لها أن تقوم بمهامها ودورها الذي نشأت من أجله، وأن لا تكون راكدة ومهملة ومنسية شأنها شأن القصة الطويلة التي عانت الأهمال والنسيان، والسبب يعود في ذلك الى أن السارد فقد بوصلة الإدراك والحس الفني الدقيق والوعي ومعرفة السياقات الفنية الصحيحة لكتابة هذه الأجناس الادبية، كون أن السارد لايستطيع أن يفصل بين القصة الطويلة والرواية القصيرة من حيث العناصر التي تدخل وتوظف فيهما وصعوبة الفصل بينهما، وكذلك الامر فيما يتعلق بالرواية القصيرة جداً والقصة القصيرة، وفك خيوط الإشتباك بينهما، لأن الفارق بينهما كبير وشاسع، فعملية الإختزال والتكثيف لكلا الجنسين يختلف رغم وجوده ضمن سياقهما إذا ما أحسن السارد إستخدامه،إذ نجد عملية التكثيف التي تدخل ضمن صناعة القصة القصيرة تكون مهمته سياقها الذي هو الأحداث ضيقة الأفق ومحصورة وتعتمد على الحدث الواحد المتصل دون أن يكبر أو يتوسع أو يعبر حدود نظامه،وليس هناك انتقالات كبيرة كما هو شأن الرواية، لذا فقد أطلق على هذا الجنس (فن التكثيف الصعب) ويكون واضحاً وملموساً ويشكل عنصراً مهماً من عناصرها الذي يفرقها عن بقية الأجناس، أما ما يخص الرواية القصيرة جداً فإن عملية صناعتها يدخل في خضم عملية التكثيف لكنه لايتعارض ولا يتداخل مع أي جنس، كون أن حرية الكتابة في هذا الجنس تتيح للسارد أن يحتوي مساحة كبيرة من الأحداث وواسعة الأفق وعلى الروائي أن يحافظ على نسقها الفني من أجل فك هذا الإشتباك والتداخل وسوء الفهم الذي يحدث، أي أن الرواية القصيرة جداً يجب أن تكون ملتصقة بأصلها الذي إشتقت منه وهو فن صناعة الرواية، وعلى المتلقي أن يلمس وهو يتابع الأحداث أنه مع رواية ولكنها قصيرة جداً، لما تضم من عناصر فنها وصناعتها، ورغم إشتراك الجنسين في الادوات المستخدمة فيها – مثل الزمان والمكان والشخوص والاحداث والثيمة- الا أن الفارق فيهما أن تلك الادوات تستخدم في جنس القصة بشكل مختلف عن الرواية، فالاولى تحيلها الى سياقها والثانية كذلك، لأن حرية المساحة التي تستخدم في الرواية أكبر واوسع واكثر شمولاً رغم عملية التكثيف الذي يقوم فيها الروائي لجعل الرواية قصيرة جداً تظل محافظة على عناصرها الاساسية، وهذا ما سوف نجده ونحن نتابع الروايات القصيرة جداً التي كتبها الروائي حميد الحريزي.
في رواية المقايضة يقدم لنا الروائي مملكة من نسج الخيال باسلوب فنتازي ورمزية عالية، إذ أن الصحفي الذي تجرأ ودخل هذه المملكة يكتشف، أن الشعب كله يمتاز بأنه ذات ذيول محتلفة، الا الملك المعظم، وأن هذه الذيول هي تعبير لولاء وحب الملك المعظم، ويقاس الولاء والحب بضخامة ومتانة الذيل، فمن يملك ذيل كبير هو أكثر ولاء للملك، وان من لا يملك ذيل يعد من الشواذ المكروهين المنبوذين، الذي يأمر الملك بالتخلص منهم، وهم العلماء والباحثين والمفكرين والادباء، لذا فأن الصحفي يعمل على إنقاذهم بعملية المقايضة بالغذاء مقابل أخذهم الى بلد الشواذ، كما هو الحال في هذا النص.
ولكي نكتشف ما ذهبنا إليه والفارق الواضح بين الاجناس سالفة الذكر، فعلينا أن نستقطع العتبة النصية لهذا النص، ونجد ملامح الاختلاف وكيف أن النص الروائي كذلك اختزل وكثف لكنه ظل يحمل صفات وسمات وشكل ومضمون الرواية:
(في كل ارجاء المعمورة شاعت اخبار مملكة (ملك الزمان) حيث تمر عقود وتتلوها عقود من السنين، تذهب أجيال، ترثها أجيال، والحكم ثابت والآباء يوَرَثون الحكم للأولاد والاحفاد، شعب يطيع ملوكه حد العبادة، فله الأرض والثروة، وله على الارواح والاملاك السيادة )ص 31
وهكذا يتضح لنا ان عملية الاختزال والتكثيف لم تخل بالسياق الفني المطلوب في صناعة فن الرواية .
في الرواية القصيرة جداً (أرض الزعفران) نكون مع نسق فني حكائي مستمد من موروثنا الشعبي الحكائي حكايات (الف ليلة وليلة) حيث أن ضوية ولدت وهي متميزة في تصرفاتها وطبيعتها، ومشت وعمرها خمسة اشهر، وكشفت لابناء البلد مكان الصندوق العجيب، وعندما حفروا في المكان الذي حددته وجدوا الصندوق الا ان اربعة رجال لم يستطيعوا حمله، وقد حملته بيد واحدة وطلبت من الجميع ان لايفتح الصندوق ويكشف سره لان في ذلك خراب البلاد، وتزوجت رجل يضاهيها في الغرابة، وقد حل عليهم ضيف في جو ممطر والارض تحولت الى وحل يصعب المشي عليها، الا انه لم يبلل ولا حصانه ايضاً، فتزوجها وعم الخير في البلاد، وعندما قرضت الارضة خشب الصندوق وكشفت ما فيه عم الخراب في البلاد واختفيا عن الارض.
هذه الحكاية كتبت بنمط الغرائبية والعجائبية وتحمل رمزية عالية، وتقدم لنا الصراع الازلي بين الخير والشر.
وهكذا فإن التعامل مع حجم الرواية في طولها وقصرها، يشبه الى حد بعيد الرسام الذي يتعامل مع صورة فيرسم الصورة كما يريد لها صغيرة او متوسطة وكبير، ولكن يجب عليه أن يحافظ على مكوناتها وعناصرها ومضمونها وشكلها، وهكذا هو الحال مع الانماط الروائية.
وهنا اود الاشارة الى أن إنتقال الروائي من فصل الى آخر، يعني ذلك ان هناك إنتقالات في مسار المبنى السردي، تشمل حركة الاحداث الا أن ذلك لم يحدث في هذا النص كون ان الاحداث ظلت متصلة رغم تلك الفصول التي لم تشكل اي انتقالة تذكر.
اما رواية ( المجهول) فهي حكاية سجين اطلق سراحه عند التغيير ودخول الامريكان، والفرهود والانفجارات والهمرات والدنيا مشتعلة، وهو يرتدي نظارة لا يرى فيها كون نظره ضعف ويحتاج الى نظارة جديدة، واحداث اخرى سنعرف من خلالها رمز المجهول.
في رواية (القداحة الحمراء) نكون مع علاقة مكان وشخوص، وتلك العلاقة نشأت بين اثنين صارت بينهما صداقة حميمية كونهما هجرا من مناطقهما، والتقيا في مكان آخر وتفاصيل ستكتشفون من خلالها رمز القداحة الحمراء.
أن عودة فن صناعة الرواية القصيرة جداً، الى الساحة الادبية وتفعليها وتحريكها وزجها مع الاجناس الاخرى، يؤكد عملية إنتعاش حركة الادب وتفعيل كل ما هو كاد ان يكون طي النسيان، وكذلك البحث عن الجديد.
وما قدمه الروائي حميد الحريزي في كتابه الذي هو بحجم كتاب الجيب، والذي ضم اربع روايات ( المقايضة- القداحة الحمراء- ارض الزعفران – المجهول) هن نموذج يمكن الاعتماد عليه باسلوب فن صناعة الرواية القصيرة جدا، وقد تضمنت تلك الروايات احداث وثيمات وشخوص وزمان ومكان كبيرة وواسعة ومتشعبة شأنها في ذلك شأن الرواية بكل اشكالها.
من إصدارات مطبعة حوض الفرات – النجف لعام 2019