اسماعيل ابراهيم عبد
يقال ان الشعر هو فعل الازاحة اللغوية، لكن ذلك وحدُهُ لا يُكَوّن شعراً ما لم تستجب له ذائقة العصر، وثقافة المجتمع اللغوية والسلوكية. لقد تبنى الشاعر جاسم العلي بعضا من هذه القضايا الشعرية في مجموعته الشعرية (ومض الاجنحة)، الصادرة عن دار ثائر العصامي، للعام 2019 على النحو الآتي:
اولا: الانقلاب الازاحي
1 ـ في ومض الاجنحة مباغتة بلاغية ابلاغية تلك هي ان شعره ومضٌ لإزاحة منقلبة عن ضدها، وهي الإخبار عما لا خبرية له:
[على مرمى حنين …
كان القلب ….
…. اشتعال
تعالي نهيم] ـ ومض الاجنحة، ص17.
الأصل في بدء الحنين انه قريب ولا علاقة له بالحجر، لذا فأول النقض، عن الاصيل، هو الصلابة، التي تتحول الى رقة عبر الحنين، لكنها تنقلب الى معاكسها كلياً، عبر التقرب من الحنين بمسافة قصيرة، لكنها مستحيلة، اما القلب المشتعل فلم يبقِ شيئا للحنين، مما يضطر الشاعر ان يغير ازاحته الثالثة الى ازاحة رابعة هي الهيام بلا هدف.
وفي متن المقطع علائق مكملة منها ان الحنين حالة نفسية تعارف عليها المجتمع كونها تَسِمُ العلاقات النظيفة بالود والتآخي والمشاركة، خاصة للأُمهات والحبيبات، فضلاً عن ان المفارقة اللغوية الظاهرية بين (القرب الحميم، القلب المشتعل، الاشتعال المدمر، الهيام في التيه) كلها لم تؤدِ وظائفَها، انما تشارك في رسم صورة لاحقة هي:
[فكل الطرقات …
لنا وطن] ـ ومض الاجنحة، ص17.
وهذه العبارة متمم مخاتل، كون الطرقات تؤدي وظيفة النقل والترحيل لا التوطين والاستقرار.
2 ـ لعل الشاعر سيفض لنا انشغالاً آخر في:
[والعشب يبارك
خطوتنا ارتحال] ـ ومض الاجنحة، ص17.
في هذه العبارة تضييع لاستقرار الدلالة، فالعشب (رمز البراءة والفطرة والجمال) يتشبه بالارتحال، ذلك يعني ان الطرق المذكورة ـ قبلاً ـ تؤدي وظيفة مادية. اذاً حل الاشكالَ الناجمَ عن تعدد الازاحات هو الركون الى قلق وجودي يأخذ بالمادي نحو عدم لـ (مباركة) الضياع الكلي (الارتحال الدائم).
من الجمع بين الصورتين نلج مرحلة اخرى للقصيدة.
3 ـ في المرحلة الجديدة جمع بين الزمان والمكان، وتغييبهما عمداً للتوصل ـ عبر عدة تقلبات إزاحية ـ الى ان السر في الحنين المفقود والمواطنة الضائعة هو ضيق الزمن فقد صار نقطة حرجة، كأن الانسانية كلمة داخل دائرة يرسمها فرجال، او كأن (عيسى ع) لسان الشاعر ليقول الانسانية كلمة الله:
[والزمان نقطة حرجة
تكفينا دورة فرجال
كلمات نرتضيها
ونافذة
لا تطلق الأسرار] ـ ومض الاجنحة، ص17، ص18.
إذاً الازاحة النتيجة هي ان (لا اسرار في الوجود) كونه بدأ من عدم وينتهي الى كلمة الحقيقة الوحيدة (العدم).
ثانياً: تقانات
بودنا التذكير بأن الومضات الشعرية هي النسيج الغالب والأنضج على مستوى تجربة الشاعر، ويمكننا ان نعدَّ تقانات الومضة تقانات شعرية لا تبتعد عن مستوى التكثيف والغنائية، بمعنى ان التقنية تقنية لغوية تنسق الفعل الشعري بالتسطير شبه الهندسي للتوافق المسجع، دونما ايقاع داخلي او خارجي، وغنائية الفعل الشعري منفتحة على اللا لحنية:
[بغصن خلود….
اضمك تفاحة…
في كف الوجود
لسماء… بعيدة
…….. بعيدة
…….. بعيدة] ـ ومض الأجنحة، ص25.
التسطير ادى لغة اشارية تجعل للفراغ (……..) معنى تكرار المحذوف ومد الكلمة المسجعة كما في الصدى الصوتي، وبهما صار للشعر غنائية دونما تلحين ايقاعي، وحافظت المقطوعة على شكل خيطي من التنغيم يقارب التكرار في القفلات الموسيقية.
ثالثاً: اسلوب المحو
حيلة اسلوبية تلك التي تسند القول بتسلسل رقمي، اذ ان قصيدة أجنحة احتوت على 15 مقطعاً، يكاد يتصاعد الفعل الكتابي فيها برهانة (خطاب رملي)، بمعنى يضع الأثر ثم يمحوه , بدءاً من الأسطر الأولى حتى الأخيرة من قصيدة الأجنحة . سنحاول تبيين هذا عبر انتقاء ثلاثة مقاطع الأول والسابع والخامس عشر، لأجل تظهير هذا المتجه الشعري (الاسلوبي/ التقني):
[ 1
لا ريح تحمل أجنحة
الحمام
والوقت ثنايا الصبر
في خصر استدارة…
الأزمان ..] ـ ومض الأجنحة، ص68.
[ 7
الانتظار …
محض اندحار
فعلامَ تذبح الورد
بروحك كل صباح..
وترقب ريشة طائر
في قلق المدار] ـ ومض الاجنحة، ص70.
[ 15
كل التي عرفت غيوما
وأنتِ المطرُ
فعلامَ الانطفاء
وهمس النجوم
تراتيل قمر!] ـ ومض الاجنحة، ص74.
لننظر في الجدول الآتي:
نتائج:
1 ـ (لا ريح تحمل اجنحة) = اللا شيء، كون الريح فارغة من معنى الحركة والحرية بحسب توجه الومضة
(الانتظار) = اللا شيء، كون الانتظار لا جدوى منه ـ بحسب توجه الومضة.
(كل التي عرفتهن) غيوما = اللا شيء، كونها لا تبتعد عن انها صورة بعيدة غير مثمرة.
2 ـ (الحمام) = اللا أمل، كونه حمام غير مجدي فهو بلا اجنحة وبلا وله بالطيران.
(محض اندحار) = اللا أمل كون فاعل الأمل ممحو الى حد الغياب الكلي المقابل للاندحار الوجودي كليا ـ بحسب توجه الومضة.
(أنتِ المطر) = اللا أمل، كونها مطر لن ينزل، فلا غيمة حقيقية غير ذلك الامتداد الكوني للجفاف الانساني المنكفئ على الذات العدمية.
3 ـ (والوقت ثنايا الصبر) = الخنوع، كون الصبر اجباري، اضطهادي، لا حيلة لفعل غيره.
(فعلام الانطفاء) = الخنوع، كونه تضحية تتم بإرادة المضطهد الغاصب. 4 ـ (في خصر استدارة) = ضيق الافق، كون الخصر اقل المساحات واضيقها في مواضع الاستدارة عند البشر وفي الشوارع.
(بروحك كل صباح) = ضيق الأفق، اذ ان الروح المرحة في الصباح، للبشر جميعا يواجه بها الشاعر بضيق الأمل وسوداوية النفس.
(وهمس النجوم) = ضيق الافق، إذ النجوم في الومضة تمثل البعد المستحيل الذي يرسل همسات الحزن.
5 ـ (الازمان) = الشباب الغارب، بحسب الومضة، هي أزمان مضت لن تعوضها أيام جديدة، ولى جمالها بضياع الشغف بما يحيطنا.
(وترقب ريشة طائر في قلق المدار) = الشباب الغارب، كون الريش للطائر الشاب الحر الجميل وصل الآن مرحلة العجز.
(تراتيل قمر!) = الشباب الغارب، كون القمر في الومضة هو الجمال المظهري ورغبات التوق.