السيرة.. بين الواقعية والتجريد
د. مولود محمد زايد
يحاول نص السيرة ان يحقق اشتراطات هويته النصية عبر نمذجة الملتقطات التاريخية المقترنة بنزوع الذات نحو الثبات والخلود الفني الذي يمكن ان تضمنه فاعلية البناء النصي الخاضع لمحاولة المنشئ في ان يضمنه سيرته الذاتية، والتطلع نحو منحها سمة موضوعية تؤكد ما ذهب اليه (فيليب لوجون) في تعريفه للسيرة بانها ((حكي استيعادي يقوم به شخص واقعي)).
فالملمح التاريخي ذو الملامح الواقعية يكون حاضرا ومتطلعا من وراء مؤشرات الدلالة التي تبوح بها تقنيات بناء النص المتبني لهذا المهمة الجمالية.
وهذا الملمح التكويني/ البنائي نلمسه واضحا في نصوص السيرة التي تتبنى قراءة ذات متوالية زمانية مضطردة او مخلخلة لمسيرة حياة تنتقل من أفقها الحكائي الى فاعليتها النصية المؤطرة بادبيتها الخاصة التي تتراوح فيها السيرة بين الدقة والرقة على حد قول (ليتون ستراشي). مشيراً الى ملمح الدقة والواقعية ذات الهوية التاريخانية التي تحاول لملمة الاحداث من زوايا الذاكرة واعادة انتاجها بنحو يضمن لها رقة تأثيرها الجمالي المصاحب لعملية تلقيها وتمثلها كفعل منتج ضمن وظيفة من وظائف اللغة تتعلق ببعدها التأثيري الجمالي وهو ما يمكن ان تقوم به النصوص السردية بشكل فذ, وكذلك النص العمودي او نص التفعيلة على اختلاف مستويات هذا التوظيف, وهي الاشكال النصية التي توظف مختلف تقنيات الانزياح الشكلي والدلالي في تجلياتها التركيبية والبلاغية من اجل خلق الصورة الادبية الامثل التي يمكن ان يتمظهر المعنى عبرها.
الا ان دخول موضوعة السيرة الذاتية ضمن فضاءات تشكل قصيدة النثر يضع المنتج وجها لوجه امام خصوصية البناء التشكيلي لقصيدة النثر، ونزعتها التجريدية الماثلة في تكثيفها الصوري والدلالي، وهذا ما قد يتعارض للوهلة الاولى مع خصوصية موضوع السيرة الذاتية ومؤثثاتها المتشابكة مع الذاكرة والواقع.
يمثل نص الغانم سيرة ذاتية تتحدث من منطقة هي خارج التاريخ وداخل الشعر تتماهى فيها دورات الايام ومحطات العمر الابرز في صيغة تمتهن التكثيف والتجريد جوازا الى ثيمتها الجوهرية في معادلة تدفع القارئ عنوة الى ان يكون مشاركا في خلق الدلالة ان لم يكن الصانع الامهر الوحيد في فضاء النص الايحائي.
يفتتح الغانم سيرته بهذا التواشج الانطولوجي بين الذات وبين حيثيات الجنوب التي يمثلها هنا الماء. والتماهي المتبادل بين كائنات الجنوب وبين فراديس الماء التي تؤطر وجودهم وتمنحهم سمرة القصب وسلاسة الماء وعفويته: (ولأني قريب من الماء/اتيت منسابا شفيفا/ وإن بلون أسمر/فالخلجان تدور ...تدور /بخجل ..وقليلا ما تتدافع/فأتيت رحيماً).
فهو مدخل يحرك سلسلة متداخلة من مراحل السيرة التي يستعرضها النص بصيغة موغلة في التجريد، تلامس المعنى ولا تكشفه مستثمرة حتى فاعلية البياض في اثارة الدلالة: (هكذا أحبو/..../......../............/بانتظار موجة جزلة/مشيت ولم أتوكأ/على من لا يتقنُ حملَ/جسدَ صبيٍ يافعٍ).
ينتقي النص هنا من فصول السيرة ما يوافق صيغته النثرية الموغلة في التجريد والتكثيف. (أُحلق عالياً/سارحاً بقمر مهيب /في نأيٍ عن الجدران /التي لا تتسع لجناحٍ/. ودَّع الزغبَ حديثا).
فمازال النص يتنقل ضمن مديات من العمر تؤثثها الطفولة وبراءة الخطوات الاولى وبداية التعرف على الذات والتوغل في سكونها الهنيء، تتوالى الصور والدلالات بأسلوب منزاح عن واقعيته التاريخية ومسكونا بقلق التلميح والاشارة: (هكذا اشتدَّ لحني/وصارت لي كلمات ونغم /ما أرى من حياة/هكذا دنوتُ مني/كي ابقى محلقا بي /بعيدا ....بعيدا.............هناك).
ومع انتهاء مديات الطفولة، تبدأ الحياة في التكشف سافرة عن وجهها المأساوي الذي يضع العمر والذات على حد شفرة الواقع المهدد للذات والمتوعد لها بالزوال: (ان أنفلتُ من أدني مبضع/يتوسط اناملي/ان اتقي غدر رحى لا تدور/الا باغتيال كفيَّ، /عندها فقط /سأتخذ من شتاتي منفى/وأمضي وحيدا/ومن خلفي عكازٌ /يتلقف ما قد يتساقطُ من جسدي).
نحن هنا امام لغة تتردد بين بساطة التجريد او تجريد البساطة، موغلة من خلالها في صميم العمق الدلالي الذي يراود ذائقة المتلقي، ولا يمنح نفسه في الوقت ذاته ان تنفتح فيها التراكيب على ظلال للمعاني يمكن للذاكرة الخاصة بكل متلقٍ-على اختلاف انساقه المعرفية ومكوناته الواقعية-ان تصنع فيها ما تشاء من صور ومشاهد.
ولابد للمرأة من حضور وسط دوائر العمر الممتدة في هذه السيرة. ولكنه وجود يحمل تناقضاته معه فهي المنتهى والثبات وسط ضباب المكان والزمان، ولكنها ايضا المفتتح لمرحلة من الشتات والضياع المبعثر للعمر ولتفاصيله السيرية: (لهذا اعيدك حاضرا وذكرى/ فلا غرابة لو أورقت الفصول/ وسرحت الضفاف عن النهر/ في عود الى احضان/ الشتات).
ان هذا التجريد الذي نلمسه في اسلوب رسم ملامح المعنى المختص بمتعلقات السيرة الذاتية؛ يؤكد الاشكالية الكبيرة التي أشرنا اليها في مقدمة هذا المقال، والمتمثلة في جنوح قصيدة النثر نحو الكثافة والتجريد في مقابل اتكاء موضوعة السيرة على معطيات البعد التاريخي والواقعي المحايد والتي نجد ان الشاعر رحيم الغانم متحركا في مسار وسطي يحاول من خلاله التوفيق بين الخصوصية الاجناسية لقصيدة النثر وبين واقعية البعد التاريخي للسيرة.
ويختتم الغانم سيرته الذاتية في شبه استشراف للغد تبث فيه الدلالات الرمزية لصورة الجليد ابعادا موغلة في الوحشة والفراغ الممتد امتداد البياض المرسخ لدلالة التلاشي والغياب: (هكذا أقف متجمدا كنهرٍ/غزته موجاتُ زمهريرِ خواطرَ قاتلة/ كأيِّ غريقٍ/ منساباً بلا هوادة الى التجمد/ بلا ترائب من احجيات الصقيع.).