يوم غد الاربعاء (3 تموز) تمر الذكرى السادسة والخمسون على انتفاضة معسكر الرشيد، والتي قادها الابن البار للشعب العراقي العريف حسن سريع و نخبة من رفاقه، الذين شكلوا سبيكة متجانسة من جميع تضاريس بلاد ما بين النهرين، خارطة انتماءهم نسجت من كل الطيف العراقي بتعدديته الثقافية والدينية والقومية. أهمية ذلك العمل النوعي الذي نهضت به قبضة الثوار هذه؛ انها مثلت آخر نشاط اقتحامي يستهدف انتشال العراق من المصائر المأساوية والأهوال التي شرعت أبوابها بعد اغتيال الجمهورية الاولى ومشروعها الوطني والحضاري. لأسباب تنفيذية محظة (دونها الراحل علي كريم سعيد في كتابه “البيرية المسلحة”) لم تتمكن تلك الانتفاضة الباسلة من الوصول لغايتها النبيلة؛ في الاطاحة بانقلابيي جريمة شباط الدموية، ومن ثم تسليم السلطة لحكومة مهنية ومدنية، كما كشفت الوثائق التي تم التعرف اليها بعد أعوام من اعدام ابطالها عبر محاكمات صورية سريعة. ومن الاهمية بمكان الاشارة الى ان قيادة الانتفاضة لم تقتل ولم تسمح بتعرض اي من الذين اعتقلتهم عند انطلاقها، وكان بينهم عدد من وزراء الطغمة الانقلابية وقادة للحرس القومي، وقد دون البعض منهم شهاداتهم لاحقا حول ذلك السمو الاخلاقي الذي ميز سلوك تلك القبضة المتوهجة التي حفرت بشجاعتها وايثارها ووعيها آخر نشاط اقتحامي منظم هدد جدياً ما تحول لاحقاً الى كابوس “جمهورية الخوف” والذي استأصله المشرط الخارجي بعد مرور أربعين عاماً على تلك الوثبة الجسورة.
لقد مثلت “حركة حسن سريع” بشكلها ونوع المشاركين فيها وتطلعاتها ومشروعها الوطني والحضاري؛ آخر عمل اقتحامي عرفه العراقيون في تاريخهم الحديث. ومن هنا تأتي أهمية هذا الحدث المسكوت عنه، والذي بمقدوره مساعدة الاجيال الجديدة في امتلاك معنى يتناغم وحاجاتهم وتطلعاتهم المشروعة صوب الحرية والتعددية والازدهار. كما ان عظمة ذلك الحدث، يكمن في الزمن الذي شهد ولادة مثل ذلك القرار، أي من وسط العتمة ومناخات الهزيمة واليأس التي عصف بالعراق بعد تمكن “أوباش الريف وحثالات المدن” من تصفية واغتيال خيرة ما أنجبته البلاد من زعامات وملاكات مدنية وعسكرية. لقد هزت تلك الانتفاضة الباسلة زمرة الانقلابيين وادخلت الرعب في قلوبهم، وسرعت لاحقاً في زوال سلطة عصابات الحرس القومي سيئة الصيت.
ان التعاطي مع مثل هذا الحدث الذي يمثل الجانب المسكوت عنه في ارث العراقيين (المشرق)، يفضح حقب الذل والتخلف والهوان الذي بسطت هيمنتها عليه بعد فشل تلك المحاولة الجسورة، حيث تواجه هذه المحطات المتوهجة من ارث العراقيين، عملاً منظماً وممنهجاً لتهميشها وتزييف الحقائق عنها وعن مغزاها وصناعها وشحناتها وما تكتنزه من شيم وقيم. وعلى العكس من ذلك نشاهد كيف يتم النفخ في أحداث ووقائع ومناسبات وشخصيات ستعيدها الاجيال المقبلة لحجمها وموقعها الطبيعي، بعد أن يتمكنوا من انتشال مشحوفهم المشترك من هذه الغيبوبة الممتدة الى شتى تفاصيل حياتهم. ان فهم ووعي مثل هذه الوثبات وابطالها من نسيج “حسن سريع ورفاقه” يحتاج الى ما تربصت له أجهزة النظام المباد وورثتهم الحاليين أي (الوعي والشجاعة) وبنحو خاص في مجال الفكر والبحث العلمي الرصين، والذي يستدعي اقتفاء أثر الارث المرصع بكل هذا الجمال والصدق والشجاعة وروح الايثار التي نسجت ذلك الاقتحام الذي ارتقى فيه جنود معسكر الرشيد وزعيمهم الجسور الى ذرى المجد والخلود…
جمال جصاني