عند البحث في علل ما يجري على تضاريسنا المنحوسة من اخفاقات وهزائم متتالية، تتكشف امامنا العديد من التجليات والمعطيات والظواهر التي بمقدورها مساعدتنا على فك طلاسم هذا المأزق العضال، لكننا اليوم سنتوقف عند ما نجده ظاهرة تستحق الاهتمام الا وهي (قناعات الخراب) السائدة ودورها في ديمومة هذا المأزق الوطني والقيمي والحضاري. لا يحتاج المرء الى ذكاء كبير كي يكتشف حجم نفوذ هذه القناعات المسبقة والمميتة لدى الكثير من العراقيين، وبنحو خاص لدى ما يعرف بـ (النخب) من الذين أدمنوا على تقيأ مثل هذه القناعات والاجابات الجاهزة عند كل مناسبة وفي كل زمان ومكان. هذا الطفح من الآراء والقناعات البعيدة عن المسؤولية والحكمة والانصاف، تعد اليوم معيقاً شديد الفعالية أمام أي مسعى نحو امتلاك فهم جديد ومثمر لما جرى ولما نتخبط وسطه من هزائم وانسداد شبه مطلق للآفاق. زمن النظام المباد جرت عمليات ممنهجة وواسعة لترسيخ مثل هذه القناعات المثقلة بفهم الظواهر والاحداث وفقاً لحنديري السلطة وجهازها العقائدي والتعبوي الضيق (اكذب واكذب حتى يصدقك الناس)، وهذا المنهج لم يتقوض بعد زوال طغيانهم ربيع العام 2003 عندما وجدت فيه القوى والعقائد التي تلقفت مقاليد امور البلد، مناسباً ومتناغما تماما وما يدغدغ توجهاتهم الفئوية الضيقة.
غالبا ما ترد في كتاباتي عبارة “حطام البشر” وهم نتاج حقبة مؤلمة ومريرة من تاريخ العراق الحديث، يتصدر هذا الحطام اصحاب هذه العقائد المميتة “قناعات الخراب” والتي تكبح أي أمل صوب التغيير والاستعداد لمواكبة تحديات وهموم عصرنا وحاجاته الواقعية. القسم الأكبر من هذا الحطام هم من فلول النظام المباد ومن العاملين في مجال انشطته الاعلامية والآيديولوجية والتعبوية، من الذين ما زالوا وبالرغم من الأهوال التي اكتشفت بعد زواله، يصرون على تلميع صورة ذلك النظام وتلك التجربة الكارثية في تاريخ هذا الوطن واهله. وخطورتهم تكمن في قدرتهم واستعدادهم للتخفي وراء مختلف الواجهات الجديدة والمترافقة وانعدام لا مثيل له للموضوعية والانصاف، مواهب واستعدادات اعيد الاعتبار لها من قبل حيتان المشهد الراهن. كنا بأمس الحاجة الى تقويض مثل هذه القناعات التي قذفتنا لكل هذا الحضيض، فاذا بنا أمام اعادة ترويج وتزويق وتدوير لها، حيث الاجابات والتحليلات السطحية والديماغوجية نفسها، والتي نجدها لا تكتفي بوسائل الاعلام التقليدية وحسب بل تسللت الى مواقع التواصل الاجتماعي بشكل مبرمج وواسع.
ان سطوة هذه القناعات المميتة وعند قطاعات وشرائح واسعة من العراقيين؛ يفسر لنا علل عجزنا وفشلنا في امتلاك تشخيص دقيق لما نعيشه من هزائم واستباحات. امامنا مشوار طويل ومرير كي نتعافى من هذه الآفات، لا يمكن ان ينطلق مع هيمنة هذه القناعات الآيديولوجية البائسة، والتي ينطبق عليها قول السيد المسيح “لا تنظر الى القشة في عين أخيك، انظر الى الخشبة التي في عينك” وهذا ما نجده راسخاً في ما يجتره فلول البعث والنظام المباد من قناعات ومقارنات ومقاربات وقحة وصلفة تجاه ما جرى لوطن كان مترعاً بالتطلعات الحضارية الراقية، ليتحول من خلالهم الى مستقر دائم للكوارث والكوابيس. صلافة لا مثيل لها عكسته نشاطات فلول ذلك الحطام الذي خلفته “جمهورية الخوف” والتي اصبحت مكشوفة وسافرة هذه الأيام وعلى شتى المنابر والمنصات الاعلامية التقليدية منها أو الحديثة (السوشيال ميديا) بعد أن تيقنوا من هشاشة وهوان وخواء من تلقف أسلاب وانقاض هذا الوطن المستباح..
جمال جصاني