تعتلي جدران (سيميز) «غاليري صفير» الزاهية (خلال ربيع حزيران) ما يقرب من عشرين لوحة عملاقة طازجة، منجزة بألوان الأكريليك على قماش، نُحتت ألوانها العجينية ضمن فضاء تعبيري يتفوق في حدّته الجارحة على ما سبقه من وجدانيات أسعد عرابي الروحية.
يُقام العرض في أشهر الأحياء الخاصة بصالات العرض في عاصمة التشكيل، وهو حي «السان جرمان» (في الحي اللاتيني) بالقرب من «البوزار» العريقة، وذلك احتفاءً بالذكرى الثلاثين لميلاد هذا المجمّع التنظيمي، هو الذي يمثّل منذ القرن التاسع عشر مركزاً أسطورياً لـ»مونوبولية» الحداثة والمعاصرة الباريسية. ومنذ أوائل الحقبة الانطباعية، وقبل أن تقاسمها نيويورك هذه الريادة (مع ستينات ما بعد الحرب العالمية الثانية).
ولكن ما هو الجديد في المعرض الراهن ولوحاته الأخيرة؟ قد يكون هذا الجديد مستقى أصلاً من سابقه: توحّد «الساكن مع المسكون»، والهجرة عن درع المدينة إلى اللامكان. وقد يكون هذا تكريساً أشدّ انحيازاً للتجربة الكابوسية العمودية الغور، بما يخص القيامة الحضرية التي اتّسمت بالغربة والاغتراب والغروب.
«أنا» وخارطة مدينة الطفولة صنوان نتشاطر الموت المؤجل، لا ندري إذا كان يزحف باتجاه جسدنا الذي أنهكته شيخوخة الزمان؟ أم أننا نحن الذين نزحف إليه بوهن السنين وبطواعية
«يرى سارتر بأن الحياة ما هي إلا مصير محتوم يؤجل كل يوم وكل ساعة، لذلك فنحن نمارس البقاء بتوكيل من برزخ الموت «فهو أقرب إلينا من حبل الوريد»»
تسليميّة
يقول اسعد عرابي :»أن العدم وأنا توأمان مثل المرآة. تفصل بيننا فسحة من العيش المطمئن المؤقت، والعابر. يرى سارتر بأن الحياة ما هي إلا مصير محتوم يؤجل كل يوم وكل ساعة، لذلك فنحن نمارس البقاء بتوكيل من برزخ الموت «فهو أقرب إلينا من حبل الوريد، يحضرني خاتم الفلاسفة مارتن هايدجر مؤكداً أن «الموت ليس حادثاً استثنائياً، يجب التعامل معه بالأحرى بطريقة وجودية».
تتأنسن سيرة المدن منذ ولادتها وقبل أن تواري الثرى ما بقي من دثائر بدائعها الذوقية، عبوراً من كهولتها ثم شيخوختها السرابية. هكذا يراها ابن خلدون في «مقدمته»: «أول ما يفسد بعد العمران صناعة الموسيقى». تتمدد مثلاً حواضر المعمورة عامة بنسق أفقي، ما خلا مدن الشرق الأوسط العربية، فهي تتسرطن عموديّاً. يدفن الحديث منها ذاكرة السابق حتى يغور ماضيه في متاهات النسيان، «مكسيكو» الجديدة مثلاً أنشئ نسيجها بجانب جسدها الذي ضربه الزلزال. وكذلك «كيوتو» الإمبراطورية العريقة، حُدّثت بمعزل عن خرائطها عاصمة الإلكترون والسبرنيتيك «طوكيو» وهكذا.
يجمع المدينة مع ساكنها (الذي تسكنه) مصير عدمي مشترك. يتأرجح ما بين الموت الجماعي القياماتي والموت المفرد الاغترابي، تتراوح حساسية التشكيل في فضاء اللوحة بالتالي بين قدرية الموت الوجودي وجذوة غريزة البقاء.
يستبطن جسد اللوحة هذه المعاناة، بما يتجاوز شهادة الموضوعات، وحتى المواصفات الكرنفالية للشخوص الهذيانيين. ثم تصل التجربة إلى اللغة النوعية للصباغة المأزومة أو سلوك الفرشاة المتوتر أو أدوات التعبير الأخرى مثل سكين الرسم التي تخنق زعيق الأزرق أو الناري. تروض جذوة لون الدم أو تنحت خدوش جدار الأسود الغرابي، وهكذا.
إذا كان من البديهي أن اللوحة غير معنيّة بإنذارات الساعة وقيامة المدن أو الإحباطات الشمولية في «الأنا العليا»، فهي لا تستقيل من شهادة تعقّب وتحسس الزحف العدمي الوجودي والاستسلام العبثي لسيولته البركانية التي تنهش الجسد كلما تقدم به العمر.
هي مشروطة بالاستغراق العزلوي في الذات دون قطع حبل السرة والتواصل مع الآخر. تماماً مثل ثنائية الباطن والظاهر.
ينطبق على اللوحة ما ينطبق على عالم «الذوق» (في البواطن التصوفية). يُعبر عنها «قول ما لا ينقال» الشطحي لابن عربي إلّا بالخط واللون. ولا يمكن أن يكون إلا كما هو عليه، فهي أي اللوحة «لا تخوض في المألوف، ولا تحدّثنا بما نعرفه» لأنها أكثر من مغامرة وجدانية، وأشدّ تهوراً من المخاطرة. يحكم طقوس تحولاتها ذلك الزمن السرمدي النسبي البارق والمنزلق من السياق المتتابع أو المتعاقب. أي أنه لا يخضع لمكانية الزمن في بندول الساعة.
لوحة برزخ الأموات
تزداد آليّة الأداء هذه المرة تسارعاً وطزاجةً وتدفّقاً، مع تجنّب التعديل والتصحيح ما أمكن. لأن الواقع الحدسي ينبثق بعذرية خصوبية غريزية لمرة واحدة لا تقبل لحظيتها المارقة أيّة رقابة أو مراجعة. قد لا يكون هذا النسق جديداً في المعرض، ولكنّه أشد احتداماً وبركانية من أي مرحلة سابقة. وقد لا يقود إلى مرحلة تطورية تالية بقدر ما يسمح بتعاقب الولادات الافتجائية الموازية لما يجري خارج إطار اللوحة من دراما يوميّة.
تقع اختيارات لوحات العرض بين نموذج لوحة بطاقة الدعوة بعنوانها التوأم هي التي تعبّر عن التجذّر المعاند بخلية المدينة المتهالكة المتهافتة والطوباوية في آن واحد، أي التحام الساكن بالمسكون حتى لتبدو القطة كحيوان أليف رمزاً للداخل. هذا من جهة، أما لوحة الملصق من جهة رمزية مقابلة فتكشف صبوة التحليق مثل طائرات الورق الطفولية خارج المدينة والسرب.
نشهد تجمّعاً وتجمهراً لا اجتماعيّاً، لأن دليله الذي يقود قدر كل طفل هو مسار الريح في اللامكان بعيداً عن مسقط الرأس. يذكرني بسيرة أحد الرحالة الذي تسربت إلى كيس تفاحه وهو مسافر جموع من النمل، فحملها وعاد من حيث جاء حتى لا يغربها عن وطنها الأول. لوحات تعيدنا وهماً إلى المدينة السرابية.
*ضفة ثانية