إنني أدرك أن تقدم أي بلد من البلدان، إنما يكمن بمقدار ما ينتجه من سلع، وما يفيض لديه من إنتاج. وأعلم أن جميع الفعاليات الأخرى هي في الأصل عوامل مساندة لهذا النشاط. فليس هناك من يستطيع أن يعمل بمفرده في قطاع من القطاعات، أو يستقل بنفسه في مجال من المجالات، حتى لو كان في أعلى درجات القوة والثراء.
وفي أي بلد منتج في العالم ثمة قيم رفيعة تعينه في تطوير ذاته، وتجعله قادراً على التطلع نحو المستقبل. فلا ينشغل بأمور الماضي، ولا ينصرف إلى نبش التاريخ. ومثل هذه القيم لا تأتي دون عمل متواصل، لأنها نتاج معاناة حقيقية، وتقاليد صارمة، وخبرات طويلة.
في التسعينات من القرن الماضي وفي ظل حصار خانق مؤذ، وجد آلاف الحرفيين في العراق فرص عمل جيدة في ورش صغيرة مكتظة، ذات معدات بدائية. إلا أن السلع التي أنتجتها لاقت رواجاً كبيراً رغم رداءتها. فلم يكن ثمة بديل عنها في تلك الأيام، سوى ما يصل من الخارج بأسعار باهظة. وهكذا انتشرت صناعات اللدائن والورق والألبان والمنظفات والألمنيوم والزجاج والأثاث والمبردات والسخانات والأنابيب المطاطية. بل إن كثيراً من المكائن والآلات استنسخت في هذه الورش، بسبب الحاجة وقلة المعروض.
وللأسف فإن عصر الانفتاح السريع الذي حدث بعد عام 2003 أوقف جميع هذه الأنشطة، وجعلها من آثار الماضي. وجاء في ذات الوقت بقيم جديدة لم تكن معروفة من قبل إلا على نطاق محدود، مثل الفساد والاستهلاك والأنانية واللاانتماء. وأخذ التفكك يدب في أوصال البلاد، وبدأت الدعوات الانفصالية تتصاعد هنا وهناك.
إن للإنتاج الصناعي علاقة جدلية بالثقافة. فهناك على الدوام تطورات جديدة تنشأ في خضم الحركة المتصاعدة للعمل. وهناك إبداع جديد في كل مرحلة من مراحل التاريخ.
وقد يظن البعض أن منتجي الثقافة هم الفنانون والأدباء والإعلاميون والمؤرخون والمفكرون، فحسب، لأنهم يعملون على إشاعة الجمال في حياتنا اليومية. لكن الواقع أن تأثيرهم ثانوي. فهم غير قادرين على إحداث نقلات كبرى، مثلما يفعل الحرفيون والعمال والفنيون وذوو الخبرة. فهؤلاء هم الذين يصنعون التحولات الاجتماعية الكبرى، وهم الذين يخلقون الظروف الملائمة لحركة الثقافة. وقد كانت المطبعة التي صنعها صائغ ذهب ماهر في القرن الخامس عشر الميلادي حداً فاصلاً بين العصر الوسيط وعصر النهضة، مثلما كان الحاسب الآلي الذي صنعه مهندس بريطاني ثورة ثقافية بكل ما في الكلمة من معنى، وهكذا.
لو كنت على رأس وزارة الثقافة لعمدت إلى دعم وتنمية الورش الصناعية بكل ما أوتيت من مال وقوة، ولأقمت لها الاحتفال تلو الاحتفال، ومنحتها التكريم إثر التكريم، لأنها نشاط ثقافي بالدرجة الأولى. ولما انشغلت بالمهرجانات الخطابية والمعارض والندوات والمؤتمرات، لأنها في بلد غير منتج، لن تأتي بأي مردود على الإطلاق.
محمد زكي ابراهيم