د. عبد اللطيف جمال رشيد:
عندما اخترنا الانخراط في الثورة وحركة التحرر الكردي في النصف الثاني من القرن المنصرم، ووضعنا نصب اعيننا اهدافاً ومبادئ وشعارات وطنية، كان في مقدمتها تحقيق العدالة والمساواة والحرية والخلاص لشعب كردستان والعراق ككل من حكم الدكتاتوريات، وتحقيق الاهداف والمطامح القومية واسترخصنا في اجل تحقيقها الغالي والنفيس.
عظم التضحيات التي قدمت وسيل الشهداء، وزوال حكم البعث الذي جثم على صدور العراقيين لعشرات السنوات، وانتهاء حقبة مظلمة من تأريخ العراق حكم فيها النظام بالحديد والنار، كانت من اهم النتائج التي تمخضت عنها الثورة والنضال المسلح، الا ان تلك الاهداف والانجازات باتت تضمحل شيئا فشيئا، والشعارات الكبيرة اخذت تصغر وتتضاءل.
واخذت الخلافات تبرز بين القوى والاحزاب السياسية التي باتت تعصف بمكونات المجتمع، وغدت التقسيمات المذهبية والطائفية والقومية والحزبية والمناطقية، تظهر بنحو جلي لتعمق الازمة وتوسع الشرخ وتنذر بعواقب وخيمة على البناء الجديد، لتأخذ التدخلات الخارجية – مع ما تغذيها من صراعات وتناحر سياسي- مكانا لها من دون الحلول الوطنية. تعمقت على اثرها الخلافات والصراعات السياسية التي برزت في ظلها مافيات وتجار حرب ومجاميع إرهابية تصول وتجول، ليتحول العراق بذلك من دولة تتطلع لبناء تجربة جديدة في المنطقة والعالم، الى ساحة للصراعات والتجاذبات والتناقضات الاقليمية والدولية.
معظم الاحزاب السياسية المعارضة للنظام السابق بشتى انتماءاتها وتنوعها الفكري ومنهجها السياسي، اصبحت جزءاً من واقع مؤلم وباتت تستخدم الادوات والافكار نفسها وتلونت بالشعارات الفارغة ذاتها ، والممارسات والسياسيات التي كانت تناضل ضدها، لتعود الدكتاتورية بأوجه ومسميات جديدة قمعت في ظلها الحريات وصادرت الافكار بأساليب واشكال متنوعة وصل الى حد التدخل في لقمة عيش المواطن، وليبقى الشعب العراقي برغم الميزانيات الهائلة والإمكانات الكثيرة مفتقراً الى الخدمات الاساسية من ماء وكهرباء وبنى تحتية، تفشت معها البطالة التي دفعت بالآلاف من شبابنا الى التهلكة على ايادي الجماعات الارهابية وغيرهم من تجار الحروب أو الهرب الى خارج العراق طالبين اللجوء في بعض دول اوروبا.
لقد تصدر العراق في ظل الفساد وسوء الادارة، قائمة الدول الاكثر فسادا حتى وصل بنا الحال الى فقدان شبه كامل للثقة بين الشعب والاحزاب السياسية، وهو ما ظهر جليا في اخر انتخابات برلمانية، تدنت فيها نسبة المشاركة لتصل في افضل الاحيان الى 20%، وفقا لإحصاءات غير رسمية، وهو مؤشر على انعدام الثقة وتراجعه بنحو خطير بين الشعب والاحزاب السياسية ومؤسسات الدولة التي ينبغي ان تكون ممثلة للشعب وليس العكس.
سقطت محافظات بأكملها بيد الجماعات الارهابية، وتفكك جيش جرار بين ليلة وضحاها كلف بناؤه الدولة مئات المليارات من الدولارات، وتحول ثلثي البلاد الى اطلال وخرائب، من دون ان نشهد محاسبة او معاقبة المسؤولين الحقيقيين عن سقوط البلاد بيد الارهاب والمجازر التي قام بها ضد شتى المكونات وخصوصا الايزديين الذين تعرضوا لأبشع انواع التنكيل والابادة الجماعية.
جاءت حكومة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي التي ولدت بعملية قيصرية ومازالت غير مكتملة الاركان، كطوق نجاة لعملية سياسية متخبطة مشوهة، تفتقر الى اسس متينة يمكن البناء عليها لاعادة صياغة العلاقة وتحقيق المصالحة بين مكونات البلاد. نقول جاءت لتطرح انموذجا مختلفا يأمل الجميع معه بان تتمكن عبره من محاربة الفساد واجراء الاصلاحات الادارية مدعومة بتشريعات حقيقية تعيد هيبة الدولة، وتنهي حكم الجماعات المسلحة ومعالجة الخلافات المستعصية بين الاقليم والمركز، التي عجزت اغلب الحكومات السابقة من ايجاد حلول ملائمة له بعيدا عن التعصب والاحقاد والمصالح الحزبية والمذهبية.
الا ان هذه الحكومة الجديدة التي نعول عليها جميعا في ان تجابه الملفات المستعصية والكبيرة والصراعات والتجاذبات الإقليمية والدولية، لم تخرج لحد الان من تراكمات وتبعات المراحل السابقة ولم تطرح لحد الان حلولاً وبرامج واضحة لمعالجة الازمات والمشكلات التي تواجه البلاد. ونأمل بان تتمكن من معالجة المشكلات والازمات التي تواجه البلاد.
لم يكن اقليم كردستان بمنأى عما يجري فبدلا من ان ينأى بنفسه عن الصراعات المذهبية والحزبية، ويوظف الأموال الهائلة التي كانت تدخل خزائنه من الحكومة الاتحادية لاعادة البناء والاعمار وبناء مؤسسات حقيقة، والأهتمام بالشعب الكردي الذي سعت الانظمة السابقة الى تحطيم ارادته، وضمان مستقبل جديد لاجياله المقبلة، اهدرت الاحزاب الثروات وغابت الشفافية وترسخت بذلك مراكز قبلية عائلية فردي على حساب حكم الشعب، وتدهورت معه الاوضاع السياسية والادارية لتبرز ازمات طالت مفاصل الحكم ومؤسسات ليسحق المواطن ويصادر قوته اليومي ويقتل الامل والثقة بالإدارة الكردية..
بات البدء بحراك جديد وثورة تنويرية ضرورة ملحة، خصوصا وان بناء حزب واثرائه لا ينبغي، ان يكون على حساب هدم القيم والمبادئ والانتماء الى الوطن والدولة والتجاوز على الحقوق العامة والفردية.
الشعب الذي يقف كالمتفرج على بلد يتفكك ومستقبل الاجيال الذي تفكك، يدفعنا الى السؤال مرارا وتكرارا، ما الذي سنتركه لأجيالنا المقبلة وماذا سيقول التأريخ عنا هل كنا على صواب وهل كل التضحيات التي قدمت سابقا ذهبت سدىً ؟ ما هي المناهج والافكار والشعارات التي بالامكان ان نتبناها فيما لو بدأنا ثورة او حراكا تصحيحياً جديداً ؟ بعد ان افرغنا مخزون الشعارات ولم نبق اي شيء لم نتاجر به في سبيل الوصول الى السلطة والحصول على الحكم. وهل ينبغي ان يظهر لنا داعش جديد، حتى ندرك ان الصراعات والتناحر وشيوع الانتماءات القبلية والمذهبية والطائفية العلة الابرز للواقع العراقي المؤلم ؟.
لذا وبما ان الوضع الان لا يحتمل المزيد من المماطلة والقفز على الحقائق، بات لزاماً علينا مراجعة الاخطاء ووضع الصالح العام قبل المصالح الحزبية والفئوية والشخصية، وان نعمل مجتمعين على بناء سلطة حقيقية وليس حكومة قاصرة عاجزة عن استكمال اركانها، وابعاد الهيمنة والسطوة الحزبية والفئوية عن مؤسسات الحكم في العراق والاقليم على حد سواء، لان انعدام الثقة وتفشي الفساد وسوء الادارة يمنحان الارهاب والجماعات المسلحة وتجار الحروب والفاسدين والمرتزقة، فرصة جديدة ليستجمعوا قواهم، والظهور الينا من جديد بأوجه واشكال مختلفة، في دولة تحولت – مع الأسف الشديد- الى دولة افراد وجماعات عوضاً من ان يرتكز فيها البناء على المؤسسات وترسيخ سيادة القانون.