كما هو حال غالبية الطغاة والمستبدين من الذين ساقوا شعوبهم على طريق الحملات الايمانية، أوصى الجنرال عمر البشير مفرزة الجنود التي اقتادته الى سجن بوكر؛ بالشريعة الاسلامية خيراً، وهو مشهد لا يختلف شيئاً عن سلوك قائد الحملة الايمانية في العراق، والذي حرص على حمل القرآن معه وهو قابع خلف القضبان. ظاهرة الرئيس المؤمن والذي يحرص على استعراض ادواره الايمانية، أمام جمهور مدمن على اجترار ما تلقيه منابر الوعظ مدفوعة الثمن، ليست بالجديدة والطارئة على مضاربنا المنكوبة، لكنها تجددت وتغولت بشكل غير مسبوق في السبعينيات من القرن المنصرم، أي بعد اكتساح احزاب وجماعات الاسلام السياسي للمشهد العام في البلدان الاسلامية. وغير القليل منا يتذكر المصير الذي لاقاه الرئيس المصري الأسبق السادات، والذي كان سباقاً لامتشاق هذا العنوان لركوب موجة “التكفير والهجرة” التي اجتاحت مصر وباقي المضارب المتجحفلة معها بوهم “الفريضة الغائبة”؛ لينتهي به المطاف صريعاً بميدان الاستعراضات، ذلك المشهد الذي وصفه محمد حسنين هيكل بعبارته المشهورة “مات الرئيس المؤمن بالرصاص الأشد ايماناً”.
مع زوال عمر البشير من المشهد السياسي تتقلص دائرة المنتسبين لنادي المؤمياءات المنحدرة الينا من كهوف العصور الغابرة، عندما كان اسلافهم من القراصنة واللصوص يعدون أنفسهم “ظل الله في الارض”، لتشرع الأبواب أمام الجيل الجديد من السودانيين لينهضوا ببلادهم بعيداً عن ارث اللصوصية والشعوذة وانتهاك كرامة وحقوق البشر. هذا الائتلاف الواسع من القوى الوطنية والمهنية الديمقراطية التي قاد الانتفاضة الشعبية السلمية (اعلان الحرية والتغيير) يشير الى الانبثاقات والتطلعات الجديدة للسودانيين، والى الوعي بضرورة الانعتاق والتحرر الجذري من مؤسسات واجهزة وحيتان النظام القديم ومنظومته القيمية، المسؤولة عن بعث الروح بمثل تلك المؤمياءات وعناوينها المنقرضة. هذا الوعي هو من يدفع قادة الانتفاضة الجدد لعدم التهاون في مفاوضاتهم الجارية مع ممثلي المجلس العسكري الانتقالي، ومحاولات كبار جنرالاته للالتفاف حول المطالب العادلة والمشروعة في نقل السلطة لحكومة مدنية تمهد الطريق للانتقال صوب الديمقراطية وبناء مؤسسات الدولة الحديثة، هذه المطالب التي تحظى بتأييد ودعم الاسرة الدولية ومؤسساتها الاممية.
ان التحدي الذي يواجه السودانيين بعد زوال “الرئيس المؤمن” من المشهد؛ اكبر وأعظم من مهمة وضع البشير في سجن كوبر. فمن دون التعاطي الحازم والمسؤول مع الشروط والمناخات التي تتيح ظهور مثل هذه الاوبئة الاسلاموية والقومية والعقائدية الزائفة، وتكبح امكانية تورم مغامر ولصوص جدد تحت ذرائع وحجج كلفت شعوب هذا البلد الممنكوب، خسائر فادحة في الارواح والثروات والفرص والآمال، عبر التأسيس لمؤسسات دولة تنهض بهذا البلد من انقاض ما خلفته تلك التجارب العقائدية الخائبة؛ ستتعرض كل هذه التضحيات لنهاية لا تليق بها وبتطلعات سكان هذا البلد العريق. برنامج الانتقال هذا هو ما يؤكد عليه ممثلي (اعلان الحرية والتغيير) مقابل ما نضح عن ممثلي كبار الجنرالات في الجيش والاجهزة الامنية؛ من “عدم جدية في نقل السلطة الى المدنيين” وفقاً لما ذكره الناطق باسم تجمع المهنيين السودانيين محمد الامين عبد العزيز. وامام هذه الرغبة للتمسك بالسلطة من قبل الجنرالات وسعيهم لاعادة تدوير فلول النظام السابق خلف واجهات جديدة، ليس امام قوى الحرية والتغيير سوى مضاعفة نشاطاتها الاحتجاجية ورص صفوفها خلف مطالبهم العادلة، والقادرة وحدها على انتشال السودان مما يتربص به من مخاطر وتحديات…
جمال جصاني