اسماعيل ابراهيم عبد
بدءاً .. ان المبرر الأساسي لموضوعات شعرها هو توسيع دائرة الفهم الشعري وجداً ونظماً وتجلياً كون الشعر تنوعاً وثراء ونعمة اغواء قرائي ذوقي مستدام!
ان أجواء الكائن ، كائنها الأبيض القلب في سلوكه ، المتصوف في فنه وحبه لأهله (الشعراء والشاعرات) يصير فناَ فلسفياَ لاشتغال الشاعرة غرام الربيعي ، التي تراعي فيه قدرة اللغة على الانجاز وتصييغ كائناتها الشعرية .
لنتقدم قليلا نحو (سيبار حين يئن البجع):
أولاً : سيبار القديمة ببجعها
بدءاً .. سيبار ـ أو اليوسفية ، او بابل ، او بغداد ـ هي حضارة لمدينة تسمى مدينة الطيور ، تئن كالبجع الجريح ، وسيبار الحريةُ تئن فيها أيضاً!. الشاعرة فهمت ان سيبار (نحن) :
نحن القدماء جدا
كطين اسمر
…
القدماء جدا
كصوت الآلهة
نحن القدماء جدا
كضوء فانوس
…
نحاور القلق بقلق أكبر
ليستفيق الاصغاء
…
نتماهى بطين كذوب
يتراقص على المدن
المدن الثملة بالقدم والسقم والاسئلة
سيبار الأصل مملكة قرب اليوسفية الحالية.
ولاختيار الشاعرة (سيبار) متناً عنواناً لديوانها الشعري ـ على ما نجتهد ـ ثلاثة أسباب :
1 ـ ان (سيبار) حاضرة لمعنى الجمال الأول أي الطبيعة تلك التي تحتفي بالطيور اسماً وحلماً وسلوكاً .
2 ـ ان القصائد والشعراء والشاعرات وغرام الربيعي وام غرام وابيها هم مادة الراوي الشاعرة ، لا يمكن جمعهم في مدونة لذا صاروا رموزاً مؤصلة لسيبار لا العكس! 3 ـ ان الشاعرة تتبنى قصيدة القناع عبر الراوي الذي يضع التاريخ والمعرفة كأمانة عند حضارة الخير والحرية ، عراق سيبار وسومر واشور واكد. ثانياً : المستوى التفخيمي للنثرية ـ هو مستوى من الاداء الشعري بلغة شعرية شبه سردية ذات بهجة انفعالية :
[في تمام الساعة القابضة على الصباح
اعترفتْ شرفتُهُ المطلة على قلبي
أن الطرقات ليست كلها تؤدي الى الحب
الورود ليست كلها تبعث عطرا
…
بعض الماء لا يصلح للسقي
فملوحة الفكرة تطيح باللقاء] ـ سيبار ، ص9
السرد في المقطع يصير اسلوبا وليس غاية ، وهو ليس تضميناً ، بل اضفاء تفخيمي عن طريق (آليات النثر المنغم) بجعلها لغة ترتفع الى مرحلة النسق الثاني من التكتيك الازاحي ـ مطلق الوجع وبما يقربها من النص المفتوح شرط ان تحافظ على « كون الابداع موهبة حل المشكلات « (2) . يمكن ان تؤدي آليات قصيدة النثر دوراً فاعلاً في حل مشكلة الشكل بالسرد مثلما هو حال المقطع اعلاه ، وقد يضاف لعناصر القصيدة بعضاً من عناصر ووظائف الحكاية دون ان يصير الاداء السردي أعلى مستوى من الاداء الشعري ، لتتمكن القصيدة من استيعاب التأويل المفتوح دلالياً كشرط مكمل لجدوى قصيدة النثر .
يمكن اختيار بعض المقاطع ضمن النصوص الشعرية ذات المتن الحكائي لأجل التوضيح :
[عذرا ابنتي
سأترك لك ارثاً
من لوحات داكنة ،
وقصائد مبحوحة
الوطن المجروح سيخبرك سبب ذلك] ـ سيبار ، ص12
مثل هذا الاستثمار بمقدرته استيعاب اسلوب الفلسفة الحديثة بانتهاج طريقة تفخيم الملحمة الشعرية بقصيدة نثرية كبنية رئيسية للواقعة الشعرية ، ويمكن لقصيدة نثر لها موضوع كارثي ان تجعله مادة هلامية متحركة ضمن عناصر ووظائف خاصة تعلي الدرجة التفخيمية لنثرية الشعر .
وعند الجمع بين اكثر من مورد ستصير القصيدة ذات نسق مكثف الأفعال والدلائل والغايات ، لتقترب من مثالية مفترضة للجودة ، يُصْنَعُ لها احتمال التفوق المستقبلي على الأنواع الشعرية اللاحقة ، وقد تصبح مبرراً لنقلة جديدة في المنهج البنائي للشعر ، وهي بهذا ستفتح طريق العبور بالنص ذي الشكل التجريدي نحو الماهية المنطقية باعتماد المأثور التسجيلي للتاريخ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي مثلا .
في النص القادم محاولة للبدء بمرحلة التفخيم النثري للشعر :
[غرام الربيعي
تعالي نحصي ليالي الجنون
فالقصائد وارواحنا
تستل من صناديق اللهفة تاريخا مغتصبا
وتنشر الغسيل على مرأى من أودونيس وأليوت وحمد دوخي
وسلمان داود محمد وكاظم الحجاج وعلي حسن الفواز وآخرين.] ـ سيبار ، ص44
ـ هذه الاسطرة الاسلوبية أوحت بالتقاطع الدرامي بين موقفي الشاعرة غرام الربيعي الراوية لأسى الجنون والبطلة غرام الربيعي المتصدرة قائمة الأبطال الاسطوريين من ادونيس الى علي الفواز . لقد حدد النص فلسفة وحكمة المستقبل بربطها بثلاثة متجهات : الروح والجنون والشعر ، وتلك هي فلسفة الفضيلة عند أفلاطون ـ طبعاً بالطريقة المعكوسة .
ـ اما الحدث الكارثي لهؤلاء الأبطال هو ان ارواحهم فضحتها اوطانها ونشرت غسيل بعضهم على حبال بعض ، أي تساووا بفضيحة الاهمال التاريخي لهم ، إذ وضعهم لهفة مغتصبة ، بمعنى صاروا لهاثاً وراء قصائد لا قارئ لها وحياة اسوء من عدم .
ـ المرأة الشاعرة غرام الربيعي الراوية المزدوجة هي العنصر اللغوي الذي بالغ بنسيج القصة وجعلها مثل حكاية شعبية وكأن الراوية ستوجه مستقبل الشعر نحو التفخيم النثري للحكائي الشعري .
ثالثا : موارد الحدسية
لقطة شعر لحدس وذروة ولحظة نثيرة لا زمان لها ولا مكان إلّا في ذهن تخميني وذكاء خاص . لها صياغة تختزل ، وتوجه ، وتفاعل الأطراف بالمضمونات ، ومن ثم تمزج الخمائر والثيمات فتعطي ذبذبة ذهنية او ذهالية أحيانا ، وتنبوئية ، يقول تودوروف :
اذاً الحدس الشعري يتقيد بالآتي :
أ ـ لا زمنية اللحظة الشعرية
[… احزرني
كحكايات السنونو
كأسرار الزيزفون
كحوارات الروح
كترنيمة مقدسة
كشمعة
كضوء
كصلاة نذر
أو كأشياء أخرى] ـ سيبار ، ص48
فالفعل الوحيد هو (احزرني) ليس له وقت لذا فلا زمان للحظته ، واما التشبيه بالكاف فهو تشبيه وصفي لن يحقق انتقالاً ولا حركة زمنية ، لذا فالتشبيه لن يحقق زمناً بذاته بقدر تخلية الزمنية من القدر الشعري .. لذلك سنقرر لا زمنية اللحظة الشعرية كونها لحظة مطلقة الجمال تصلح للأزمان كلها شأنها ـ في الشعرية ـ شأن التفخيمية التي مر توصيفها.
ب ـ الاختزال اللغوي الشديد
[احزنني وهو يحمل جنازتي
يكرر بكاءه : سأشتاقكَ
أخبرته أن حربا جديدة قادمة] ـ سيبار ص123
تلك المقطوعة النصية تحقق النماذج الآتية من انماط الإيجاز :
ـ اقتصاد لغوي لشديد يمثل مظهراً للجودة الشعرية ، به يصير النسيج الشعري محكمَ الصياغة متفردَ التماسك .
ـ ايجاز يعطي للحدس الشعري طاقة تأويلية تضاف الى ما عليه الجملة من ايحاء وصور عميقة.
ـ ايجاز يبرمج الافكار المستقبلية ـ كالحروب التي لا تبقي حياً ـ مثلاً .
ـ ايجار للترابط بين الأطراف والاوساط
ـ ايجاز يحدث هزة للوعي أو ذبذبة على الأقل .
ـ ايجاز يحقق الذهال عبر النبوءة .
رابعا : صيرورة التنغيم التركيبي
لهيكلة الكتابة مستويان ، أفقي وعمودي ، اي المصدر والمبصر ، الأول يمثل الآليات الانتاجية البصرية والثاني يمثل آلية تشعب قنوات التوريد ، يلتقي المستويان في الذاكرة التجميعية ، والتجميع الفعّال لطروحات فكرية ووجدانية بانعتاق شبه صوفي يتمثل هذا عبر المستويات الآتية :
ـ في لحظة الانشاء تستحضر المقدرة الذاتية ، ثم تُستَدَر ألفاظ الافتتاح :
[اجيد غلق النوافذ
فالتراب والذباب والسباب
………] ـ سيبار ص51
ـ ثم تستجلب مركبات الانشاء ، تتراكم شيئاً فشيئاً صيرورتا اللقطة ونسيجها :
[امتهن الضوء
والهواء لغتي
،،، أني أصغي فقط
كإصغاء قلبك] ـ سيبار ص51
ـ ثم يتصاعد الانشاء البنائي بما يشبه تذويب الذات في دقائق أو ذرار التشكيل المظهرية للفعل الانفعالي المتخيل ويتمم التنغيم مداه النصي في صيرورة تامة تتمثل في :
[يخطئون الطريق
وامارس الأبواب] ـ سيبار ، ص51
ـ ثم يزداد التركيب فاعلية عند الاقتراب من نقطة النضج الأعمق بـ الصيرورة الكلية :
[قلبك الذي ، كشعر رأسك
يهدي الامان ساعة الصفر
ابيض بإصرار] ـ سيبار ، ص51
- لتلك الاسطر قدرة واعية تشكل نظاما لصلات الافتتاح .. تتحول الى لقطة شعرية مطلقة الدلالة ، تتحول الى انشاء بنائي مقتصد ومحدد يترتب بين قيمة الطيبة (القلب) والفعل الانفعالي المتخيل (الاصغاء) .
هذا التدرج في التموج والتكامل النصي أعدّه منظماً تنغيمياً يركب المعاني والقيم على وفق القائم بحملها . أي الفن اللغوي للشعر .
المصادر المساعدة
(1) غرام الربيعي ، سيبار حين يئن البجع ، المصدر السابق نفسه : ص 98 ، 99،100
(2) كولن ولسن ، فن الرواية ، مصدر سابق ، ص 15