الثالث من آيار هو اليوم العالمي لحرية الصحافة. وهو مناسبة اممية تتبارى فيها الامم الحرة لتقديم المزيد من المكتسبات والتشريعات التي تنتصر لحرية الانسان وكرامته، لما لهذه المهنة (الصحافة) من مكانة ودور في ضمان وتعزيز أمن المجتمعات واستقرارها وازدهارها. ولا يخفى على المتابع الحصيف ما لهذا الملف الذي يجمع بين الحرية والصحافة، من قدرات في التعريف بالواقع الفعلي لما تمر به البلدان والمجتمعات المختلفة، من استقرار وتطور أو تشرذم وانحطاط، حيث يمكن من خلاله الاطلاع بوضوح ودقة على الحالة الواقعية لها من دون رتوش أوتزويق. وفي العراق يمكن سبر أغوار الكثير من الظواهر والمشاهد التي تبدو غرائبية، عبر وعي العلاقة الفعلية بين طرفي هذه المعادلة (الصحافة والحرية)، حيث مر أكثر من 16 عاماً على زوال الدكتاتورية وانطلاق ما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية التي ترفد المجتمع والدولة العراقية الفتية بما حرمت منه لأجيال عدة؛ أي الحريات والحقوق والتشريعات والمؤسسات التي تحرس وترسخ كل تلك المكتسبات. لكن مسار الاحداث يؤشر الى غير ذلك تماماً، حيث من الصعب العثور على ما وضعناه عنواناً لمقالنا هذا (صحافة الحرية) وسط ذلك العدد الهائل من الصحف والمطبوعات التي قذفتنا بها حقبة الفتح الديمقراطي المبين.
غالبية الخطابات والتوجهات السائدة لا تتجرأ على مواجهة هذه الحقيقة المرة، والمتمثلة بعجزنا عن انتاج صحافة تنتصر للحرية وما يرافقها من منظومة فكرية وقانونية وقيمية، وذلك لأسباب موضوعية وذاتية تتعلق بما مر به البلد وما خلفته التجارب السابقة من حطام البشر والمعايير والقيم. لذلك استفردت مطبوعات وصحف الكتل المتنفذة بـ “الحرية” لتتخم الساحة بمنتوجاتها المثقلة بهموم واهتمامات ساهمت بوضع العراق على رأس قائمة البلدان الأكثر فساداً وفشلاً في التقارير الدولية. وهذا بحد ذاته يكشف عن زيف ما يجتره البعض عن واقع حرية التعبير والصحافة الحرة في عراق ما بعد العام 2003. هذا العدد الهائل من الصحف والمطبوعات المهمومة بثارات القرن السابع الهجري وأضابيره وسردياته الطائفية، لا تمت للحرية والتطلعات المشروعة لعصرنا بصلة، ولا يختلف عن ذلك كل ما يصدر عن قوى التشرذم العنصري والقومي والعقائدي، والتي الحقت أفدح الاضرار بحاضر ومستقبل هذا الوطن المنكوب.
هذه المناسبة الاممية (اليوم العالمي لحرية الصحافة) اقرت في بداية التسعينيات من قبل منظمة اليونسكو، وحينها كانت الصحافة هي المنبر الأشهر والاكثر اهمية للتعبير عن الرأي وايصال المعلومة والمعرفة للمتلقي. أما اليوم وبعد سلسلة الثورات الواسعة في مجال تقنية الاتصالات والتواصل، فقد توفر للبشر (افرادا وجماعات) سبل ووسائل غير مسبوقة للوصول الى المعلومة، هذا التطور الهائل الذي قوض نظم سياسية في شتى اصقاع العالم، ولم يستثني منطقتنا والتي شهدت ما عرف بـ “الربيع العربي” بعد أن قلصت وسائل التواصل الاجتماعي المسافات والوقت بين البشر، وشرعت الأبواب أمام المعلومة والمعرفة كي تصل بسرعة وبأفضل شكل ممكن، الى من حجبت عنهم قبل ذلك. ما حققته هذه الثورات العلمية من مكتسبات لصالح قضايا الحرية والحداثة وحقوق الانسان، تحاول قوى الركود والاستبداد النيل منه عبر سن التشريعات التي تحد من كل أشكال حرية التعبير، ومنها على سبيل المثال لا الحصر محاولات اقرار مشروع قانون جرائم المعلوماتية، والمطروح اليوم بقوة أمام العديد من برلمانات دول المنطقة ومنها العراق، هذه المحاولات وغيرها؛ تكشف عن طبيعة المخاطر التي تتربص بـ “حرية الصحافة” في يومها العالمي…
جمال جصاني