يقول عالم النفس الشهير كارل غوستاف يونغ: “الطفل ليس اناء فارغاً يمكن أن يصب فيه أي شيء، بل على العكس؛ هو كيان فردي بالغ التعقيد والتحديد…” هذا الفهم العميق يتيح لنا الانطلاق صوب صياغة برنامج شامل ومتكامل للتعاطي مع الانسان منذ لحظاته الاولى في هذا العالم، وهذا ما خطته الدول والمجتمعات التي وصلت لسن التكليف العلمي والحضاري، وما أثمر عن خططها وتوجهاتها في هذا المجال الحيوي؛ من نتائج ومعطيات انعكست تقدما وازدهارا في شتى ميادين الحياة المادية والمعنوية. وعلى العكس من ذلك في البلدان التي ما زالت تتوهمه “اناء فارغاً” ومشرعاً لاستقبال فضلاتها الوعظية والعقائدية العقيمة، والتي تحوله في الكثير من الحالات الى فريسة سهلة لموجات الانحراف والانجراف بعيداً عن مواهبه التي سحقت بسبب ذلك. يقول بيكاسو: “كل طفل فنان، المشكلة هي في كيفية بقائه فناناً عندما يكبر”. لقد شاهدنا والعالم أجمع ما فعلته عصابات داعش بذلك “الفنان” الكامن في اعماق الاطفال الذين رمتهم الاقدار العابثة بأحضانها، عندما حولتهم الى مشاريع مسوخ اجرامية وارهابية. سلوك داعش هذا لا يقتصر عليها حصراً، بل هو نتاج وتتويج لمناهج وتربية وسياسات ما زالت عاجزة وجاهلة ومعادية، لكل ما يكتنزه مستودع الطفولة من مواهب واستعدادات للخلق والابتكار.
ليس من الصدف ابدا ان تتصدر الدول والمجتمعات التي وعت عالم الطفولة، كالنروج وفنلندا قائمة البلدان الاكثر انسجاما وازدهارا وسعادة في عالم اليوم، هذا الفهم لهذا “الكيان الفردي بالغ التعقيد والتحديد” يجعلهم حريصون على نمو وتكامل التساؤلات التي يضج بها عالم الطفولة، بعيدا عن زجر الاجابات القامعة والجاهزة لكل زمان ومكان، والتي لا تفضي لغير تزويد قوافل الاتباع بالمزيد من الحشود الفاقدة لقدرة اتخاذ القرار الحر والشجاع. ان الموقف من الطفولة يحدد ويرسم المصائر الفعلية للمجتمعات، وما نعيشه اليوم من عجز وفشل في مواجهة شتى التحديات المادية والقيمية، يكمن في الحطام الذي خلفته المراحل السابقة في هذا المجال الحيوي، حيث ما زالت مؤسسات وتشكيلات العهد “الديمقراطي” الجديد، بعيدة كل البعد عن وظائفها المفترضة، والتي اقرها الدستور لرعاية الطفل وتقديم كل الخدمات اللازمة له، وفي مثل هذه المواقف يمكننا التعرف؛ على جدية أو زيف ما يدعونه من شعارات التغيير والاصلاح وسيادة الدولة والقوانين، التي تنتصر لكرامة الانسان في جميع مراحل حياته.
ما جرى للعراق في العقود الاربعة الاخيرة (ربع قرن مع النظام المباد و 16 عاماً مع ورثته) انعكس بكل قسوته وضراوته الهمجية على شريحة الأطفال بوصفها الأكثر استضعافاً، تلك السياسات المتهورة والبعيدة عن المسؤولية، خلفت وراءها جيش من الايتام تجاوز تعداده الثلاثة ملايين، وغير ذلك من المهمشين الذين سحقتهم الحروب وسنوات الحصار، وتبعاتها المريرة من مناخات وشروط لا تمت للانسانية بصلة، ذلك الحصاد المر الذي نجده اليوم في الاجيال الحالية، المثقلة بالعجز والتبعية وفقدان القدرة على اتخاذ القرارات السليمة، تدعونا الى ما هجرناه طويلاً جراء اغترابنا الطويل عما حققته سلالات بني آدم في شتى مجالات الحياة العلمية والقيمية، ومنها تلك الحقائق والاغوار التي يكتنزها عالم الطفل واستعداداته، التي تذبل وتضمحل وتشوه مع استمرار هيمنة هذه القوافل المسكونة بخزعبلات الرسائل الخالدة ومدونات دمارها الشامل…
جمال جصاني