لا يحتاج المتابع المنصف لتاريخ العراق الحديث، لكثير من الجهد والتمحيص كي يكتشف نوع العلاقة بين الدولة والعشائر؛ فمع قوة الدولة ومؤسساتها الحديثة يضعف نفوذ العشائر وتضمحل تدريجياً مع ترسخ سلطة الدولة وتشريعاتها الحداثوية. قبل ولادة الدولة العراقية الحديثة في العام 1921 اصدرت القوات البريطانية ما يعرف بـ (قانون دعاوى العشائر) لضبط ايقاع مجتمعات بدائية اغتربت عما يحيط بها لأكثر من الف عام، لكن مع ترسخ دور المؤسسات الجديدة ومنها الجيش العراقي والجمعيات المدنية والاحزاب السياسية والتنظيمات المهنية، بدأ العد التنازلي لهيمنة العشائر على المجتمع (افراداً وجماعات) تتوج ذلك المشوار بولادة الجمهورية الاولى في 14 تموز من العام 1958 والتي سارعت الى الغاء قانون (دعاوى العشائر) لتوجه بذلك ضربة قاسمة لنظام الاقطاع وذلك الارث المظلم من تاريخنا القريب. لكن مع تحول الامكانية السلبية الى واقع بعد اغتيال الجمهورية الاولى ومشروعها الوطني والحضاري، شرعت الأبواب مجدداً أمام القوى التقليدية والعشائرية والطائفية وفلول النظام المباد كي تتلقف مقاليد امور الدولة والمجتمع، ومع سلسلة المغامرات والحروب، وجدت العشائر وبدعم من رأس النظام المباد، كل الشروط والمناخات المناسبة لها كي تفرض هيمنتها مجدداً على ما تبقى من حطام الدولة والمجتمع.
بعد استئصال المشرط الخارجي للنظام المباد، وجدت العشائر كل ما تحتاجه كي تتغول بشكل لم يعرفه العراقيون من قبل، حيث استبيحت العاصمة بغداد نفسها من مؤمياءات ذلك القانون الملغى (دعاوى العشائر) والذي حصل على دعم غير محدود من ممثلي الطبقة السياسية التي تلقفت مقاليد امور ما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية لا لاستعراضات مفارز “الدكة العشائرية” وبياناتها (مطلوب عشائرياً) التي لم تكتفي بحيطان المنازل والعقارات الشخصية لتصل الى المدارس والمستشفيات والمؤسسات الحكومية، ليس هذا وحسب بل تمددت الى حيث الشركات الاجنبية، حيث اضطرت وفي حادثة تناقلتها وسائل الاعلام المختلفة، احدى الشركات الكورية الى دفع “الدية” لأحد عمالها العراقيين، بعد تهديد عشيرته للشركة المستثمرة..! كما لا يخفي سياسيين بارزين تصدروا المشهد الراهن، حقيقة استقواءهم بعشائرهم، وهذا ما شهدناه في العديد من الاشتباكات التي اندلعت بينهم، وحلت من خلال الفصل العشائري…
مثل هذه الوقائع وغيرها الكثير، تؤكد طبيعة الوشائج التي تربط الكتل المتنفذة بالعشائر، هذه العلاقة التي تجهض كل محاولة جدية لاستنهاض مشروع الدولة الوطنية والحضارية، حيث يعتاشان على بقاء هذا المشروع هشاً وعاجزاً عن فرض سلطته على تضاريس هذا الوطن المنكوب بتغول العشائر والفصائل المسلحة والسلاح المنفلت. خيانة مشروع الدولة الوطنية والتواطؤ مع العشائر، ادى الى نخر الدولة بعدد هائل من الموظفين (أكثر من اربعة ملايين) هذا الورم الذي شفط أكبر الموازنات في تاريخ العراق الحديث، وانهى كل أمل بنهوض البلد على المدى المنظور. طبقة سياسية تتملق سلطة العشائر ونفوذ شيوخها وتحرص على تصدر مؤتمراتها، لا يمكن التعويل عليها في حلحلة أبسط قضايانا الوطنية. هذا التواطؤ هو من شجعهم على استباحة ما تبقى لنا من ارث مدني وحضاري وبشكل سافر، اضطر فيه مجلس القضاء لأن يصدر توجيهاً؛ بان تعامل “الدكة العشائرية” وفق قانون الارهاب. وهي بداية تحتاج الى الكثير من الحزم والمتابعة، كي تدرك العشائر وغيرها ان مشروع الدولة قادم وان طال الزمن…
جمال جصاني