ظاهر حبيب الكلابي
ان اصرار الشاعر على تبويب مجموعته الشعرية بعتبة العنوان (مشاهدات مجنون) حيث يؤكد الشاعر ان شقشقات تأسيه وصراخه الجواني العميق هو تجليات لتلك المشاهدات اليومية لكل مفردات النفي والسلبية والعبثية، انها مشاهدات صنعتها ايديكم واوجدتها اليات خدركم السرمدي ولا مبالاتكم تجاه ما يصنعه الجهلة بكم حكاما ومحكومين …
فعبر الشاعر عنها بالمشاهدات أي انها احداث تقع هناك خارج ذاتية الشاعر المجنون الذي امتاز عنكم باصطناعه لحظات تجلي مفارقة بالوعي العميق لم يتمكن الكثير منكم على مواجهتها وكشفها كما امتلك الشاعر بجنونه الواعي وجرأته فقام بوضع مرموزاته بانعطافاتها التهكمية وشفرتها الساخرة لأنه منهج يتفق مع ارهاصات الجنون لان ما ينكشف في ذهنية الشاعر المجنون لا ينكشف لطباع ونفوس اعتادت مداهنة السلبي والخنوع لليومي الزائف.
تلك مكاشفات الشاعر الذي اصطنع جنونه الواعي في عصر العولمة والثقافة الرقمية وتكنلوجيا المعلومات .. فقام الشاعر بتعرية المستور وكشف المخبوء لكون المداهنة والتستر على الزيف قتل جماليات الحياة وأزهق قيم الجمال والحرية والكرامة.
ان معظم نصوص هذه المجموعة تحمل خطابا عميقا وناقدا فيه من القسوة وجلد الذات الشيء الكثير بما فيها ذات الشاعر التي خرجت من قمقم الزيف واصطناع الخواء والخدر الى فضاء الرفض والكشف عبر عتبة الجنون التي تبيح للمجنون ما لا تبيح لغيره فجاءت هذه النصوص متراسلة بهذا الكم من الفضح وتسمية الاشياء بمسمياتها من دون مواربة او تخفي ـ فالمجنون لا يجيد لعبة التخفي ويمقتها لانه اختار الكشف على اوسع مدياته على مديات الحواس الخمسة فليس هناك ما يخشى عليه المجنون لانه خسر كل شيء ويحذركم خسارات متوالية ولات حين مندم ، نقرأ للشاعر تجليات الالم قدسو (عجلكم) سارعوا خذوا مني البشارة
اصبحت لأصحاب الذيول… الامارة، فقد توج الثور اميرا وصار الحمار وزيرا ص22 امارة العجول.
ومن قصيدة (من يرجم الشيطاطين في بلدي) ص27
((ترجم الاشرار في كل العالم الا في بلدي-نار وموت ودخان تفتح لجهنم بابا وتبني بيوتا للشياطين))
((نصدر الانبياء والرسل ونستورد دعاة الموت والقتل. برعنا في فن القول ((قتلنا حسينا والحلاج والمقفع)).
ومن قصيدة(نشيج اللسان) نلمس توهجات الالم والاسى فيجنح الشاعر الى لعبة تشكيل العبارة حيث يعمد الى تقطيع بعض الكلمات داخل اقواس لتشظية المعنى الى محاور متعددة ينصرف اليها ذهن القاريء لإتقانه لعبة اخرى من فن التشطير والتجفير المحمود لعمل خلخلة في انساق الخطاب وفي مواضع يشطر العبارة الى جزئين بلغتين – العربية والانكليزية ولكل منهما له مدلولاته التالويلية ، انها لعبة الشاعر المجنون الذي يجيد في لعبة جنونه العزف في مناطق قولية ولفظية تكتنز فيها ذاكرة الوعي الشعبي بصور متناقضة ومتصادمة يقول الشاعر :-
(ما لمست حرير ((الفر)) شي وما تذوقت طعم ((المح)) شي ، وما قلت اني الخا ((رق)) ولا قلت اني ((العار)) ف، لم اتعلم فن ((الصار)) ف ولا فن ال((مص))روف انا اسف جدا ((آ)) سف لم اتعر))ف ما معنى ال((kiss))وف ولا الخسوف ، تعلمت مسح الاكتاف تبعت ((الخراف)) ات وتعلمت الضرب على الدف ، ادعو بطول ع ((مر)) ((السل))طان.
هكذا عمل الشاعر على تركيب أكثر من مدلول من خلال الية التقطيع لبعض العبارات وجعل بعض حروفها الدالة على معنى عبر التقطيع بين مزدوجتين او العبور عبر لغة ثانية الى معنى يولد انزياحا جديدا.
يصدم القاريء بجرأة الشاعر على ازاحة اللثام عما هو مستور وما يمتنع ذكره الا بالرمز او الكناية او التورية.
لكن الشاعر الحريزي يحاول ان يكون قريبا من القاريء يتكاشف معه على كل شيء جميل او قبيح مبح او محضور غث او سمين لأنه يريد مسح الاكتاف واتباع الخراف فهو شاهد صادق على من تقمص هذه الفعال وما يذكرها من مصاديق بضميره السردي لايقصد منه الا الاخر المتملق للنكرات والزاهد بالضرورات والفاعل للمحضورات.
تضعنا نصوص هذه المجموعة في حالة من الهستريا الصادمة ليوميات واقعنا العربي والعراقي بلسان شاعر ادعى كتابة هذه النصوص في لحظة وعي مفارق اسماها بالجنون ولكون الشاعر اعقل المجانين في هذا العصر وأعمقهم نظرة واقساهم نقدا وبصيرة فنحبذ له عقلانية هذا الرصد ليوميات هذا الزيف الذي نعيشه بصمت وخدر وخواء.
انه الجنون المبدع الذي يعيد قراءة ما عجزنا عن قراءته وفك طلاسمه فالشاعر له مقدرة على تفكيك طلاسم دهاة السياسة وصناع الزيف وادلجة الواقع فقام عبر نصوص صاخبة باكشف وفضح الخواء على استرساله الجميل الذي يجمع بين اللوعة والسخرية والتوجع والتهكم لخواء الصمت وتواكل النفوس التي اعتمدت هاجسا عميقا في غوره التاريخي يتصف بالتردد والفشل عن مسك لحظة ابداع او موقف بطولة يسترد المقموع حقه. يقول الشاعر: –
((انا شاهد عليها.. تحت ظلال رماح القصب الصفراء ضفادع لها فحيح تزدرد الافاعي. انا شاهد عليها خراف عمياء تحرس الراعي حمار يمتطي حصانا عربيا يعلق شجرة نسبه قلادة فوق مخرته ويجر خلفه طائرة (البوينغ)))
انها مرارة التوجع التي تجلت من روح الشاعر لقساوة اللامعقول الذي تعيشه الامة ويعيشه المثقف الذي عمل على حماية عقله وبصيرته بتبني فكرة الجنون – فالجنون كان اختيارا للشاعر لحماية ذاته وعقله وتجربته. ان مغادرة هذا الواقع بكسر حالة التواصل الواعي معه قد يدمر شفافية المبدع الشاعر ويعري اخلاقيته وهو يرى بام عينيه الفضائح والكوارث النازلة على صدر الامة.
يقول الشاعر (قطعان مدينتنا تعاف البرسيم وتلتهم اوراق ورد الجوري
حمير قريتنا تدرس ساستنا علم المنطق وادوات النصب والجر ودروسا في الاملاء.))
ان ما يكشفه الشاعر من توجع وآلام هو الجنون بحق اذ كيف رصد الشاعر ذلك ومجامع الجماهير تمر عليه متغافلة بوعي لا يبالي وضمير يحابي اليومي ويمتهن الصمت والخواء، ليصدح صوت الشاعر بالرفض بلغة بسيطة قريبة تستبطن الرفض والثورة وتدعو لتجربة جنونية تعمل على اعادة البوصلة ونقد الواقع وفهم ما يجري.
• يعمل الشاعر بنصوصه من اجل لغة شعرية رشيقة ولم يختر مواضيع وجدانية او غزلية او ذات منحى فلسفي اغترابي بل اقترب من هموم اليومي وكشف مجاهيل الزيف والتلاعب بالعقول فيدعو الشاعر الجماهير السابحة بالخدر وعولمة الخواء يناديهم بلغة الجموع يقول في نص امارة العجول: –
((تعالوا هلموا سراعل لأخبركم بالنبأ الخطير – لقد توج الثور اميرا، وصار الحمير وزير، تعالوا نزف التهاني واطيب الاماني لكل اصحاب الذيول للكلاب والقرود والعجول))
ثم يسترسل في فضح قافلة جموع الحكام حيث تكون هذه النصوص ادانة واعية من شاعر مجنون لواقع مجنون كل ما فيه جنون فهو لم يسر على هدى العقل وبصيرة الضمير وقناعة البشر حيث يصبح النباح كما يقول الشاعر
((النباح أجمل اناشيد الصباح ليطيب العيش ويموت الضمير)) امارة العجول ص17.