علوان السلمان
(اذا كانت الارض والسماء سوداوين/كالمداد//فان قلوبنا التي نعرفها//هي ملآى بالاشعة) على حد تعبير شاعر الخطايا بودلير..بخلق بؤرالابداع الشعري الحالم الذي هو الانزياح عن المالوف بمناخات تتجاوز تقاطعاته مع الواقع والذاكرة..كونه حشد لغوي ونسق ادائي لغاية مقصودة بتفتيت اللحظة واستخدام السرد الشعري كمحفز للتداعي..واستفزاز ذاكرة المتلقي من اجل استنطاق النص المنتَج وكشف المسكوت عنه بالتأويل والتحليل والاجابة عن اسئلته..
و(بين شقوق الجدران) المجموعة الشعرية التي نسجتها انامل مبدعها رافع بندر واسهمت دار كيوان في نشرها وانتشارها/2019.. اذ فيها يحاول الشاعر التحليق في افق الصورة الشعرية برؤية تحمل ركام الزمن ببنية تعتمد التكثيف والايحاء..ابتداء من العنوان بغرابته وشحنته المجازية المحملة بالقلق والذي هو امتداد لدرامية الصورة التي تتجاذبها عنصران(التنكير والاضافة)..والذي شكل المفتاح الاجرائي للتعامل مع النص ببعديه الدلالي والرمزي..كونه يشكل العلاقة الايقونية المثيرة لهاجس التاويل.. والذي توسط الواجهة الاولى للغلاف الذي صممت فضاءاته ذهنية الفنان جواد المظفر مشيرا الى مدلول لوحة رمزية تجريدية تختزل جوانبا غير معلنة في النص..فضلا عن انها تؤكد التفاعل النفسي والمكاني..
قل لي بربك كيف يمكن ان اكون محايدا
وانا القتيل
كيف الحياد وانت من سرق البلاد
او لست مَن باع العراق؟
او لست مَن حنّى بيوت الناس بالدم والرماد؟
انا شاعر..
اختار مَن يذوي فؤاده لليتيم
وان يقيم محبة بين الرصاصة والزناد
لا لست مَن يختار شخصا
كان قد ذبح الجوامع والكنائس والعباد
لا انضوي يوما على خط الحياد /ص55 ـ ص56
بهذا الهمس والحوار الذاتي(المونولوجي) والتأمل يفيض نص الشاعر بتراجيدية سردية بصور متعددة في اطار(فزيولوجي)كأنه وجود حسي.. مع اعتماده على المحسنات اللفظية والصور البلاغية والكنايات.. وقد اتخذ شكل حوار نام معتمد الايحاء والصور داخل جسد التجربة او اللحظة الشعورية التي يعيشها المنتج(الشاعر) بمجملها مرتبطة بوحدة عضوية تنمو بهدوء حتى نهايتها نافذة الى جوهر الاشياء..كون الشعر الدائم هو الذي ينفذ الى ما وراء دائرة الوعي..
فالنص يعتمد الوقوف على الروابط بين النفس وما حولها في عالم الحس مع حوارية تشكل الذات مركزها..ليؤلف الشاعر بين التجربة الذاتية في استكشاف غاية الوجود..والتجربة الانسانية مع التعبير عن الازمة.. فضلا عن اعتماده النزعة التفسيرية..التعليلية الواعية لكي ينسج العبارة الشعرية بعمق الرؤيا التي تخفف من وطأة الوصفية والسردية..اذ صوره مكتظة بالجزئيات والنعوت والظروف التي تشكل معنى ونشيدا في قرار قلب اللظى..بتوظيف اللفظة المموسقة الواعية التي يقرر فيها معنى الاشياء ويحكم عليها حكما نفسيا واقعيا ينم عن اجواء محدقة بشكل تأملي واع..
في المعتقل
كل الدما سالت هناك على عجل
ماتوا جميعا
بينما قد عشت انت بلا امل
كنا ثلاثينا ونيف
واقفين وجالسين وميتين على الاقل
في الغرفة الصماء والجدران
اقرب ما تكون الى الاجل
كانت كما تلك القبور صغيرة وحزينة
مثل الدموع على المقل
لا نوم في ذاك المكان ولا حديث ولا جدل
الا الممات فموت اغلبنا خجل
ماتوا جميعا بينماقد عشت انت على امل
ان لا تموت على الفراش فموت اغلبنا وقوفا
هكذا موت الجبل /ص79 ـ ص80
فالنص التفاتة الى الذات الانسانية في التعبير عن الازمة النفسية والتصدي للقلق والتمزق اللذين يدفعان المنتج(الشاعر) للطواف في احضان الذات المنتجة لصورها الشعرية التي هي الوعاء الفني للغة الشعرية.. المتشكلة من تفاعل التكثيف والايحاء والرمز مع اقتصاد في اللغة..لانتاج تركيب عقلي..عاطفي في لحظة من الزمن..وخلق تجربة شعرية تنطلق من الاطار الجزئي وتبلغ غايتها بنموها الذاتي ومعانقة التجربة الانسانية..مع تشكيلها بالرموز التي تكشف عن عمق اتصال الشاعر واحساسه بروح المظاهر الشعرية..كون الرمز يستنطق الظواهر وينال منها..مع استحضاره في اللمحة النفسية.. اذ جودة التعبير عنده تجري على المظاهر الحسية الحاملة لمعناها او معاناتها بذاتها مباشرة..
الغرباء الذين تعشقهم
مطاعم الاكلات السريعة
يحتسون الضوء في مساءاتهم
بعد الساعة الثانية عشرة صباحا
يتبعثرون بين وجوه ذكرياتهم وانين اقدامهم المتعبة
وهم يتكئون على اغصان اضلاعهم
يقولون بحسرة:
(المال في الغربة وطن
والفقر غربة في الوطن) /28 ـ ص29
فالشاعر في نصه المقطعي هذا هو الذات والموضوع وقوى النفس مجتمعة خالقة لمضامينه الموغلة في العمق..اذ يحاول بانفعاله الداخلي الذي هو انفعال نفسي وروحي يعاني الحقيقة فيستحضرها بذاتها عبر التضمين(المال في الغربة وطن….)الذي ينقل اسراره في جو من الايحاء الذي يكشف عن اتفاق مع القيم الحياتية بشكل نفسي(سايكولوجي) يحقق امتزاج رؤاه الشعرية مع رؤاه الاجتماعية ونمو النص الذي لايمكن ان ينمو نموا عضويا الا اذا كان لدى الشاعر عصب حدسي ينسج الصور ويمدها بما يبقي على وحدة النص وانسجامه وتآلفه..
فالشاعر يتناول في نصه القيم الثابتة في الوجود سواء كانت خارجية تتمثل بالطبيعة ام داخلية تنحصر في النفس..هذا يعني اعادة سلطة العقل فيها وفعلية الواقع..لذا اهتم الشاعر بالطبيعة وتآلف معها وكأنها غاية بذاتها..
من مغرب الشمس والاحزان تعقبها
جاءت تقول ودمع العين ينذرف
لو ان اعمارنا في ضوء بهجتها للموت تاخذنا
تدنو فتنحرف
فأي هاوية تلك التي جعلت
ساق الشباب بساق الموت تلتحف
ماذا تبقى
وهل في العمر من أسف
قولي بربك ماذا ينفع الاسف /ص92 ـ ص93
فالنص يتميز بدينامية حركية مع رؤيا للزمن وتأكيد على المكان باعتباره مكون ثقافي مضاف..اذ يسجل الشاعر اللحظات التي تستملكه من اللذة والحلم والقلق..فيخلق بذلك اسطورته الرومانسية بيقينه الشعوري العاطفي الممزوج بخياله.. لذا فهو يصور احلامه وامانيه في حلقة محيطة من القداسة وقدسية الكلمات ومعانيها..وهذا يجر متلقيه الى قول توفيق الحكيم في ( زهرة العمر) ـ عظماء الرجال هم عظماء العواطف واقوياء الرجال اقوياء العواطف ـ
انا غيمة للحزن قد قميصها
ففاضت دموعا من سماء محاجري
يقول ليَ الماضون حين قرأتهم
توضأ بماء الذكريات وهاجر
وصل خشوعا
نافلات قصيرة
صلاة جفاء الماء تحت القناطر
أتظمأ أم الرافدين بشطها؟
أتوصف أم النخل يوما بعاقر؟
عليها تهجد بالدعاء فربما
تعود تسليها دموع المسافر
فما جاء من دمع عليها وانما
دمع القوافي فوق صوت المنابر
افقني سريعا
لست ممن يروقهم
نواح الثكالى في تراب المقابر /95 ـ ص96
فالشاعر بوهج روحه يتنفس اجواء نصه ويسبح في فضاءاته الحالمة عبر رومانسية شفيفة وشكل متماسك فيستثير العواطف ويشحذ الخيال بنبض فني خال من الانفعالات الواهمة جامعا بين الصور النفسية والخبرة العاطفية في تصوير العلاقات الاجتماعية….فيربط بين الخيال والوحدة العضوية بصدق وجداني حتى انه يبدو ظلا يحاول اسر الدنيا..بنقل ما تعانيه نفسه نقلا مباشرا مسجلا حضوره الواعي المنسجم مع تنامي المؤثرات النفسية والحسية والحضارية في مجمل تعبيراته النصية.. كونه يرى ان الشعر الحقيقي هو الذي يولد وسط المعاناة فيعبر عن اصالة الشاعر الذي كان يعزف بعزف روحي في حالة من السمو والصفاء .. ليؤكد ما جاء به(كروتشه)..ان العاطفة بدون الصورة عمياء والصورة دون عاطفة فارغة جوفاء..