عندما تحتاج القدسية الى فرمانات سلطانية لكي تشرعن، والى اجهزة شرطوية وعسس ومفارز من المحتسبين الجدد كي يضمن اقرارها وتنفيذها من قبل الناس، فاعرف ان وراء ذلك كل الدوافع والحاجات ما خلا التقوى والايمان المجرد من الغايات الضيقة والشرهة. لقد عاش آباءنا واجدادنا والذين من قبلهم على تضاريس هذا الوطن القديم ومدنه ومناطقه المختلفة، من دون ان يشعروا بالحاجة لمثل هذه التشريعات التي تميز بين المدن على اساس (المقدس والمدنس)، وقبل ان ينتشر وباء الاسلاموية (تحويل الدين ومدوناته الى حانوت) في منطقتنا المنكوبة بكل أشكال الشعوذة واللصوصية والجهل والعوز واضمحلال العقل والحس بالعدالة والجمال، وكل ما يزين آدمية البشر من خصال وشيم؛ لم تكن هذه المدن تشعر بادنى خشية وخوف من موقف عيال الله منها، ومن شتى مشاربهم الفكرية والدينية والعقائدية. فالعراقيون جميعاً يكنون للأنبياء والأئمة والأولياء الصالحين مشاعر الحب والامتنان، من دون تمييز على اساس الدين أو الطائفة، وكانوا يشاركون بعضهم البعض الآخر في مناسباتهم الدينية من دون خوف أو حاجة للتملق أو غير ذلك من الدوافع الاستعراضية التي شهدتها حقبة ما بعد الفتح الديمقراطي المبين العام 2003.
ان ارض العراق هي موطن ولادة غالبية العقائد القديمة والاديان السماوية والمذاهب والمدارس الفكرية والعقائدية المختلفة، وهي بذلك مرشحة جميعها لأن تتحول الى مقدسة، فمدن الجنوب مسقط رأس الانبياء والموصل لا يعوزها شيء كي تتحول الى مقدسة وكذلك مدينة الاعظمية ومنطقة باب الشيخ وباقي المناطق التي تسكنها الجماعات الدينية المختلفة (من مسيحيين وصابئة وكاكائيين وايزيديين و..). لذلك فان مثل هذه الفزعات الاستعراضية ستؤسس لماراثونات لا نهاية لها، وهي في نهاية المطاف لن تخدم سوى متطلبات مرحلة عابرة ومشينة في تاريخنا الحديث، حيث نتصدر ومن دون منافس قائمة البلدان الاكثر فساداً في عالم حولته الثورات العلمية والقيمية الى قرية. ما نحتاجه اليوم بعيد كل البعد عما يجول بخاطر المخلوقات المسكونة باصدار مثل هذه التشريعات والفرمانات، والتي تهدف الى رفع منسوب الخنوع والخوف لدى شعوب كانت دائماً ضحية لأبشع أساليب الارهاب والقمع والاذلال، موروثات وتقاليد الذلة والتبعية والانقياد الاعمى هو ما تعول عليه مثل هذه الفرمانات البائسة، لا ما تستعرضه من ادعاءات ويافطات عريضة عن التقوى والفضيلة والالتزام بسيرة الأئمة والاولياء الصالحين وزهدهم الذي تعجز عن اكتشافه لديهم أفضل الميكرسكوبات الالكترونية..!
مثل هذه المواقف والقرارات لم تأتي عبثاً وهي تعكس حقيقة الوشائج الوثيقة، والتي تربطها وهذه الطبقة السياسية الفاسدة، وهم بهذا يذكروننا بما فعله دكتاتور الاتحاد السوفيتي السابق ستالين بزعيمه ومؤسس اول دولة اشتراكية فلاديمير لينين بعد وفاته، حيث أمر بتحنيط جثمانه ووضعه وسط الساحة الحمراء في مركز موسكو، ليتحول الى مكان مقدس يزوره الملايين من سكان الاتحاد السوفيتي السابق والضيوف الاجانب. في الوقت الذي عرف العالم بعد زمن طويل من رحيل ستالين؛ ان الاخير كان قد وضع لينين في أيامه الاخيرة تحت الاقامة الجبرية وحجب عنه كل امكانية للتواصل مع رفاقه والعالم الخارجي. الانبياء والأئمة والاولياء الصالحين والثوار والاحرار لا يحتاجون لمثل هذه الفرمانات البائسة، بل هو ما تنكرت له قوى الاستبداد والتخلف والشعوذة والفساد، أي ما حققته الامم الحرة فيما هجرناه منذ أكثر من ألف عام “كرمنا بني آدم”..
جمال جصاني