بعد سلسلة المآثر والفتوحات التي اجترحها مجلس النواب العراقي خلال أقل من عام على تضاريس العالم الواقعي، هاهو يلتفت الى حيث العالم الافتراضي وألعابه الالكترونية، ليطيح بأكثر العابه قسوة وعدوانية (البوبجي). في يوم الاربعاء 17/4/2019 صوت البرلمان العراقي وبأغلبية مطلقة على “أولاً؛ حظر وحجب لعبة البوبجي والألعاب السائدة والمماثلة لها، كونها تهدد الأمن الاجتماعي والأخلاقي والتربوي والتعليمي على كافة شرائح المجتمع العراقي. ثانياً؛ توجيه وزارة الاتصالات وهيئة الاعلام والاتصالات لغرض اتخاذ الاجراءات الفنية لتنفيذ القرار”. الفائدة الوحيدة لمثل هذه القرارات لا علاقة لها بالمبررات والأسباب التي سطروها من اجل تبرير تشريعهم هذا، بل في تأكيد ما أشرنا اليه مراراً حول نوع هموم واهتمامات طبقة سياسية، ما زالت وبالرغم من مرور أكثر من 16 عاماً على التغيير، لا تشعر بالخجل والحرج من بقاء وتمدد قوانين وقرارات مجلس قيادة الثورة المنحل في تفصيلات حياة الدولة والمجتمع العراقي. مشرعون، لا يعي ولا يتجرأ الكثير منهم على الاقتراب مما نحتاجه من تشريعات مسؤولة وشجاعة كي ننتشل مشحوفنا المشترك مما يحيط به من مصائر مأساوية.
بالنسبة لي شخصياً فقد كتبت مبكرأ عن لعبة البوبجي واخواتها، وعن تأثيراتها السلبية وعلل انتشارها في بلدنا مقارنة بالبلدان الاخرى، وقد شاهدت انعكاسات ذلك على ابني ذو التسعة عشر عاماً. لكن التعاطي مع مثل هذه الألعاب الالكترونية عبر قرارات الحظر والحجب وغير ذلك من الخطوات غير المدروسة، لن يفضي لتحقيق أي من الامنيات التي سطرها مشروعنا الأشاوس، وكما يقول المثل “لن تستطيع قتل البعوض بل جفف المستنقعات” أي كل هذه المناخات وشروط المعيشية وانحطاط التعليم والفساد المالي والاداري والقيمي وغير ذلك من الكوارث التي حولتنا الى مرتع مثالي لمخلفات العالمين الواقعي (حثالات البشر والقيم) والافتراضي (العاب الكراهية والعنف ضد الآخر). ومن خلال معرفتنا لنوع الهموم التي تشغل هذه الطبقة السياسية، لا نستبعد المخاوف التي افصح عنها عدد من المهتمين بمثل هذه الامور، والتي تعد مثل هذه القرارات بوصفها ممهدة لقرارات اخرى على هذا الطريق، لا سيما وان البرلمان الحالي قد استعد لتلاوة القراءة الثانية لمشروع قانون جرائم المعلوماتية، والذي تضمن العديد من الفقرات والعقوبات التي تصل الى السجن لثلاثين عاما وغرامات تصل الى الـ 50 مليون دينار.
لقد حذرنا مراراً من تقليد ما يحدث لدى بعض البلدان ولا سيما العربية منها أو الاسلاموية، لكن “الطبع يغلب التطبع” لذلك نجدهم يحنون الى منهج الوصاية على عيال الله، والذي كلفنا الكثير من الويلات والخيبات. لا احد من الأغلبية المطلقة التي اعلنت الحرب ضد البوبجي واخواتها؛ كلف نفسه والتفت قليلاً الى تجارب مشابهة انبرت للحرب على ما يتدفق من العالم الافتراضي من وسائل للتواصل وابتكارات والعاب، وما آلت اليه تلك القرارات والتشريعات، عندما تهاوت أمام ابسط تكتيكات الاختراق التي يوفرها ذلك العالم ضد هذه المحاولات اليائسة والمتطفلة على قدراته اللا نهائية. انها دليل آخر على اصرار الكتل المتنفذة والتابعة في البرلمان العراقي، على اقتفاء أثر المغفور له دون كيخوته في محاربة النسخ المبتكرة لطواحين الهواء الالكترونية (البوبجي وأخواتها وباقي جرائم المعلوماتية..) بعيداً عما “ينفع الناس ويمكث في الأرض”…
جمال جصاني